قلبي الساعة مجال لصراع عنيف بين عاطفة من الحب والوفاء، وعاصفة من شيء يشبه المقت وأنا بينهما حائر مضطرب:
لي صديق لا يزال حياً، ومع ذلك فأنا أميل إلى الاعتقاد بأنه مات، لأني كفنته في أثواب الإهمال، ودفنته في زوايا النسيان، ولأن أباه قضى، ووفاءه مضى، وليس بعد فقد الآباء والوفاء معنى للحياة.
إذن مات صديقي بالنسبة لي على الأقل. ولكنه أورثني فيما خلف لي من تركته المثقلة بالهم، جروحاً لا يزال الدم يقطر منها ولكم وددت لو أن الأيام عقدت حول اسمه ورسمه سحباً من النسيان لا ينفذ إليها شعاع من الذكرى وطالما جاهدت نفسي في أن أجعل بيني وبينه من التناسي أستاراً صفيقة، وأسواراً منيعة، فلا يسعى إلي ولا أصل إليه، فلم أوفق. ولا تزال ذكراه تلم بي وتحوم حولي، ولا أزال أتردد على رسائله وصوره كما يتردد العابد إلى محرابه ولقد يتفق لي أحياناً أن أصادف هذا الصديق الميت الحي، فأقف أمامه مضطرب العاطفة إنه يشبه صديقي في جماع شكله، إلا أن صديقي كان صفي النفس وفي القلب نقي الضمير، وليس هذا الإنسان من تلك الصفات في قليل ولا كثير! لقد أتممت اليوم قراءة الصفحة الثانية بعد العشرين من كتاب حياتي، وعاشرت الناس بقدر ما اتفق لي أخياراً وأشراراً فلم أر شيئاً أوقع في النفس من خيانة الصديق. وكنت ولا أزال أحتقر نوعاً من الصحاب يصادقون شهراً وينافقون دهراً، ثم يتقلصون أخيراً عن الصاحب فإذا هو عندهم منكر الطلعة كأن لم يكن بينهما من أسباب الود القديم ما يربط أحدهما بالآخر. . . وصديقي من صميم هذا النوع. قطعت معه في طريق الحياة أشواطاً لم يقف الأمر خلالها بيننا على ما يكون بين الصديق صاحبه من المجاملة، بل نشأ بيننا لون من الضب العميق الوثيق لم تعبث به الأغراض، ولم تفسده الأعراض فأخلصت له كما يجب أن يخلص الصاحب، لا أبتغي على ذلك جزاء ولا شكوراً إلا أن يأخذ نفسه بشيء من الإخلاص، فأعطاني على ذلك الموثق وأقسم جهد أيمانه ومضى يزعم أن شيئاً في الوجود لا يستطيع