للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دولة المماليك في حكم التاريخ]

للأستاذ ظافر الدجاني

لعل تاريخ الشرق الأدنى في عهد الحكومة الإسلامية أحفل التواريخ بما يملك على النفس جوانب الفكر والخيال، ويوحي إليها أبلغ ضروب الحكمة والموعظة، لأنه كان مسرحاً لظهور بعض الدويلات الإسلامية الغريبة في نشوئها ومظاهر حكمها ومبلغ تأثيرها في مجرى تاريخه العام ولعل أغرب هذه الدويلات، دولة المماليك في مصر، التي اختلست من الدهر ما يزيد على خمسين ومائتي سنة، كان المملوك فيها مالكاً والمغلوب غالباً، فكان يتخللها من المؤامرات والدس وأهوال الاستبداد ما لا نظير له في تاريخ المجتمع البشري. على أنها والحق يقال ليست أول محاولات هذه الطائفة البشرية لاغتصاب الحكم والاستبداد به والانتقام من الجنس الإنساني عامة لما ألحقه بها من ضروب الفظاعة والقساوة، فقد شهد تاريخ رومة الخالد، قبل ظهور النصرانية، كثيراُ من هذه المحاولات الجامحة التي باءت جميعها بالفشل والخذلان بعد أن روعت العالم وضربت له مثلاً صارماً فيما يستطيعه أبناء المماليك، بل أبناء كل طائفة مظلومة، في ميدان التمرد والانتقاض ومقايضة الجور والأذى الصاع منهما بصاعين. ولعل هذه الدولة كانت أكبر انتصار أحرزته هذه الطائفة، بل لعلها أروع مظهر لجموح أخلاقها، وتعدد الخوالج التي كانت تتجاذب نفوسها وتتنازعها إلى مسالك الخير والرجولة وجلائل الأعمال ومفاوز الشر والجريمة والآثام!

ففي الحق أن هذه الدولة لعبت دوراً خطيراً على مرسح الحياة السياسية العمرانية في الشرق الأدنى حتى ليعزى إليها أكبر الفضل في صد هجمة التتر المنبعثة من أعماق المشرق؛ قال ابن خلدون: (حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبست أثواب البلاء والعجز، ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم، والقعود عن المفاخرة، والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولة؛ فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمقه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية يجلبون من دار الحرب

<<  <  ج:
ص:  >  >>