لولا أن الخطب في شاعر النيل هو خطب الشرق الذي كان الفقيد لساناً من ألسنته، وعموداً من عمد نهضته، وبطلاً من أبطال المحاماة عن حريمه، والذود عن حقيقته، وقائداً من قواده البسلاء الميامين، وداعية فيه إلى الإخلاص في الجهاد، والإحسان في البلاء، ليظفر بحقه في الحياة والسلطان. لولا أن الفقيد كان ذلك الرجل ما جل الخطب فيه وما فدح وما كان لمثلي أن يجاوز طوره، ويصطنع ما لا يطيق، ويدفع نفسه دفعاً في مزدحم الكرام الكاتبين عن حافظ شاعر النيل فيعرضها لشيء كثير من العنت والمشقة.
ومن أعجب العجب أن يريغ هذا القلم اللدن تلك السبيل برغم ما يتعاور حامله من تبلد القريحة، وركود الذهن، وأن يأسره ذكرى شاعر النيل وحده فيتحدث عنه يوم مضى على وفاته الأربعون، ثم العام، وها هو ذا يتحدث عنه وقد تصرم العام الثاني على وفاته أمس.
وأعتقد أن حافظاً ما ملك من نفسي إلا بما غلب عليه من إيثار الوطن وفدائه، وغلب على شعره من الحماسة الوطنية والنزوع إلى الحرية، والولوع بالاستقلال والسيادة. ولعل أقل ما نجزي به حافظاً (رحمه الله) أن نكثر الحديث عنه، وأن نقدمه إلى شعرائنا الذين آثروا أدب الصبابة واللذة، وجنحوا بالأدب عن أن يكون وسيلة من وسائل إلهاب الشعوب المستضعفة وإنهاضها للمطالبة بالحقوق والدفاع عن الذمار، وظنوا أن تزويق الحديث وتليين المعارض والمقاطع ووصف الغانيات، وأسباب الترف من الأوليات التي يجب أن يعنى بها الأديب، وأن يخلص لها الأدب.
لمثل هؤلاء يجب أن نقدم حافظاً مثلاً للأديب الذي عرف غاية الأدب السامية فجعل نتاجه الجم وقفاً عليها، وجهاداً في سبيلها، ولم يحاول أن يسلك بالأدب مسلك أكثر أدبائنا الذين جحدوا حق الوطن عليهم، وتأثروا طريقة الأدب العربي في فنونه التي خلت إلا قليلاً جداً من الشعر الوطني الذي يحدث عن آمال الشعوب ورغائبها.
لذلك لم يأل جهداً في تسجيل ما للشرق من مفاخر، عز بها حقبة من الزمن، وما ينبعث لتحقيقه في إيمان ثابت، وجهاد صادق من مآرب وغايات. ضارباً له الأمثال ليشد أزره،