ظللت سنوات معتزلاً أو كالمعتزل، وما اعتزلت إلا لأن الحياة أرادتني على ذلك فأطعتها، وليتني ما فعلت! ثم جاءت أيام فهزتني حتى كادت أن تقتلع جذور الحياة من أغمض أعماقها في نفسي وفي قلبي وفي سائر بنياني وحواسي، فانتبهت كالذاهل المغمور وأنا لا أدري أحي أنا أم ميت، وإن كان لم يشعر بما أشعر به إلا رجلٌ أو رجلان أدركا ما أنا فيه من محنة وشقاء. ثم انجلت الغمة وارتفعت الغشاوة، وبدأت أرى الدنيا كما ينبغي لمثلي أن يراها، فأقبلت عليها أتفحصها كأني أقرأ تاريخاً جديداً لم يكن لي به علم ولا خبر. ومن يومئذ آثرت أن أغفل شأن هذه الشعرات البيض التي تلمع على فودي نذيراً وبشيراً، وقلت لنفسي: كذب والله على بن جبلة الخزاعي، فإني لأجد هذه الشعرات البيض أخف على قلبي محملاً وأشهى إلى نفسي من كل ما استمتعت به في صدر شبابي، وكيف اشجي بشيء قد جعله الله بديلاً من جنون الصبا وغرام الشباب. وأنا أسوق هنا أبيات على بن جبلة، وإن كان لا حاجة للمقال بذكرها، لأني أعدها من أجود الشعر وأرصنه وأحسنه تمثيلاً لمقدم الشيب، وأدقه تصويراً لإحساس الفزع الذي تتجرعه النفوس الشاعرة في يوم الكريهة - يوم المشيب. قال يذكر الشيب وقد بلغ الأربعين:
ألقى عصاه، وأرَخى من عمامته ... وقال: ضَيفٌ. فقلت: الشيبُ؟ قال: أجلْ!
فقلتُ: أخطأت دار الحيّ! قال: ولِمْ؟ ... مضتْ لك الأربعون ألسِتمُ! ثم نزَلْ
فما شَجِيتُ بشيء ما شَجِيتُ به، ... كأنما اعتمَّ منه مَفْرِقي بجَبَلْ
ولست أنكر أن علو السن بالمرءِ أمر ينبغي أن يلقى له باله ويتعهده حتى لا يؤخذ على سهو وفي غفلة، وأن الشيب هو النذر العريان - ولكن ما بالشيب من عار، فنحن إنما خلقنا لنحيا ونموت، فلتكن حياتنا كلها كما بدأت جهاداً متصلاً جريئا في سبيل الغاية التي نفخ الله فينا من أجلها الروح. وقبيح بأمري علمته الأيام ووعظته الأسى منذ كان أبوه الشيخ آدم إلى يوم الناس هذا - أن يجزع أشف جزعٍ من منهل لم ينج سابق من وروده، ولن ينجو من وروده لاحق.
وليت شعري ماذا يضيرني من شيبة في شعراتٍ، إذا كان قلبي غضاً جديداً كأنه ابن