قلنا وكيف يستقيل طلعت حرب من عمل هو فكرته وكلمته وطريقته وغايته ورمزه؟ إن في الاستقالة معنى التفريق بين العامل والعمل، ينتسب إليه ما دامت يده فيه، فإذا خلاه لسبب من الأسباب أصبح غريباً عنه؛ ولكن طلعت حرب معناه بنك مصر وشركات مصر واقتصاديات مصر، فلا تجد بين اسمه وبين هذه الأسماء تفاوتاً في الدلالة لا في الذهن ولا في الخارج. فالتعبير بالاستقالة عن راحته الضرورية بعد الجهاد الطويل والجهد الثقيل والحركة الدائبة تعبير مباين لوجه الصواب في اللغة وفي الواقع
إن طلعت حرب موجود في مؤسساته وجود الروح في الجسم العامل، لا ينفك عنها ما دامت قائمة؛ وقيامها الثابت بعمائرها ومظاهرها وإنتاجها تماثيل خالدة لهذا الزعيم الوطني العبقري الموفق. وإذا حق للتاريخ أن يجادل في أقدار العظماء وآثار الزعماء الذين برزوا في ميادين النهضة المصرية الحديثة، فإن قدر طلعت حرب، وأثر طلعت حرب، لا يمكن أن يكونا في يوم من الأيام مثار جدل ولا موضع شك. وإذا جاز للتاريخ أن يعزو نجاحنا السياسي إلى أسباب خارجية أهمها اضطراب العالم واصطراع الدول، فإنه لا يستطيع أن يعزو نجاحنا الاقتصادي إلا إلى عوامل داخلية أولها وأهمها كفاية طلعت حرب، وجهاد طلعت حرب!
ولقد كان هذا النجاح الاقتصادي الماثل في بنك مصر وشركات مصر هو وحده الحجة الناهضة على رشد هذه الأمة الكريمة: رحض عن سمعتها الأذى، ودحض عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدد عن مستقبلها السحب؛ لأنه نسقٌ من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يدوم على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة المترددة. ثم انتشر هذا الفوز الاقتصادي وانبسط أفقه واتسع مداه حتى أصبح نهضة اجتماعية شملت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجْدت على العلم ففتحت له أبواب العمل، وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بالطباعة والإذاعة والتمثيل؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة وقوّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقت الأمة شر العطلة المجرمة والأزمة المستحكمة باستخدامها الألوف من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخلقت