يذهب الجمهرة من المربين في العصر الحديث إلى أن الغاية من التربية ينبغي أن ترمي إلى تدريب الطفل على أكثر أنواع المهارة التي تتطلبها حياته الحاضرة والمستقبلة، والتي تقتضيها الحضارة وطلب الرزق. بل لقد آمن الكثير منهم بأن الحضارة في نفسها تقوم على المهارة فحسب، وأن العصر الحالي يمتاز فيما يمتاز به بتلك الوجهة الآلية التي تلزمنا بها حاجات الحياة، وأن التقدم رهين بما تحسنه الجماعة من أنواع المهارة، وأننا لن نبلغ المثل الأعلى الذي يحدونا إلى التقدم حتى نتقن أكبر عدد منها
ويذهب أصحاب اللغات إلى هذا الرأي فيما يتصل بتعليمها. فقد أمن هؤلاء على كل ذلك وزادوا عليه أن تعليم اللغات هو في نفسه ضرب من ضروب المهارة التي يجب أن يكسبها المتعلم حتى يوفق بين نفسه وبين البيئة التي يعيش فيها. بل هو لا بد مرغم على كسبها إذا هو تطلع إلى لون من ألوان الحياة أزهى من ذلك الذي اعتاده آباؤه وأجداده. فاللغة عند هؤلاء شبيهة بالمشي أو الجري أو تناول الطعام أو إحسان الرماية أو الطيران. فهي لا محيص للناشئ من أن يتلقنها في بيئته، بل هو مجبول على تلقنها ما دام يرى أن حياته تقوم على الاجتماع بسائر الأفراد، وان اتصاله الفكري مع من حوله لا يستقيم إلا إذا تلقن لغتهم كتابة وقراءة وحديثاً. واللغة فوق ذلك مهارة سامية جديرة بالإحسان ولأنها تتحمل في اطوائها تراث المدنيات التي تحدرت إلينا، ولأنها - إذا كانت أجنبية - مفتاح لمدنيات أخرى تغلغلت في تاريخ البشرية نفسه واللغة بعد ذلك دليل على التقدم الفكري لأنها الوسيط الذي تتجسد فيه الأفكار والآراء. وليست اللغة من ذلك الوجه إلا رموزاً أطلقت على المعاني التي تتدفع في نفس الإنسان. وهي التي تسيطر على موارد تلك المعاني ومصادرها. فكل كسب لتلك المهارة التي نسميها (اللغة) إنما هو تحديد لغذائنا الفكري. وكل تحديد لتفكيرنا إنما هو فتح جديد للمنطق والفلسفة بل فتح لسائر العلوم
فإذا كانت اللغة تفيض بالمفردات التي تصف كل فكرة دقيقة من تلك الأفكار، وإذا كانت ألفاظها قد تطورت مع الحضارة حتى كان كفيلة بأن تصف المعاني التي تنثال في خواطر