المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب خليق بهذا الاسم، لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني؛ فلابد من شعور عميق، أو تفكير ثاقب جدير بعناء الإنشاء والقراءة، ولابد بجانب ذلك من عبارة منسجمة جميلة تعرض المعنى على أحسن وجه وأحبه إلى النفوس؛ وكبار الأدباء في شتى الأمم يجمعون دائماً بين الفكر الواسع المتصرف في شؤون الحياة، وبين المقدرة اللغوية التي تذلل لهم أعنة البيان، ويتصرفون بها في الألفاظ والتراكيب، ويكون لكثير منهم فضل ترحيب جوانب اللغة وإكساب تعبيراتها جدة ومرونة، وإعطاء بعض ألفاظها منزلة سامية لورودها مورداً حسناً في بعض آثارهم، وشأن الأديب الكبير في ذلك شأن غيره من رجال الفنون، فالمصور مثلاً لا يبلغ الذروة في فنه حتى يجمع إلى خصب مشاعره بصراً بتأليف الألوان والأصباغ، وكل فنان لابد له من الجمع بين رقة الشعور وبين البصر بالآلات التي يكون بها أداء ذلك الشعور
والفكر واللغة، أو المعنى واللفظ، شديدا التوثق والتوشج، فلا ندحة للأديب عن التأثر بروح اللغة التي يكتب فيها وتراثها على مدى الأجيال، ولا سبيل له إلى الإنشاء والنظم فيها حتى يختلط بروحها، وتمتزج أفكاره بالمفردات والأساليب التي تهيئها له اللغة؛ والأديب الصناع يختار من المفردات تلك التي تنهض بأفكاره ومشاعره في أوجز لفظ وأحكمه وأوضحه بياناً، بما تمتاز به تلك المفردات من أجواء من المعاني رحيبة تجمعت حولها على مرور الأجيال وتوالي الاستعمال، حتى غدت يثيرها مجرد ذكر تلك المفردات على نحو خاص، وذلك ما يجعل آثار بعض الأدباء المفتنين والشعراء المجودين متعذرة الترجمة إلى غير لغتها، لتعذر نقل هذه الأجواء المعنوية برمتها من لسان إلى لسان، بل يتعذر أحياناً التفريق بين المعاني والأساليب التي هي مفرغة فيها، لتمازجها تمازج الروح والجسد
ويبلغ الأدب كماله حيث يسود القصد والاعتدال بين اللفظ والمعنى، فإذا استبد المعنى بالأهمية كلها وتحيف اللفظ خرج الأثر المنشأ من حظيرة الأدب إلى حيز العلم؛ وإذا تحيف اللفظ المعنى وصار غاية في ذاته هبطت قيمة الأثر الأدبي، وأصبح أشبه بالزخرف