والصناعة منه بالفن السامي. ويغلب الاحتفاء بالزخرف اللفظي في عهد طفولة الأدب، إذ يكون الشعر مجرد أهازيج وقواف موسيقية تافهة المعانى، وفي عهود انحطاط الأدب حين ينصرف الأدباء عن لباب الحياة إلى القشور؛ وبالزخرف اللفظي والبراعة اللغوية والأسجاع والإيقاع الموسيقي يكلف الأديب الناشئ أول عهده بالأدب، وكلما نضجت نفسه وحصف ذهنه بتجربة الحياة واستيعاب المعارف تحول اهتمامه إلى المعاني والحقائق والتزم اللفظ في آثاره منزلته الصحيحة، وهي كونه وسيلة للمعنى لا غاية في ذاته
وقد عرف أقطاب الأدب الإنجليزي بواسع بصرهم بأسرار لغتهم، وإليهم يرجع فضل توطئة جوانبها وتعبيد مسالكها، ولكل منهم في هذا الباب أثر: فشكسبير قد استخدم في رواياته أكبر عدد من مفردات اللغة استخدمه أديب، وصرف تلك المفردات على شتى الوجوه؛ وسبنسر أعنى اللغة بما أدخل فيها من ألفاظ جديدة لم تعرفها قبله؛ وملتون أصبح اسمه علماً على ضرب من النظم عذب الموسيقى فخم الرنين؛ وبوب بلغ الغاية من إحكام الصناعة وجزالة الأسلوب؛ ووردزورث كان دائم التجارب في الأساليب يحاول أن يشق للشعر أسلوباً جديداً؛ وتنيسون تفنن في استخدام الألفاظ وتحوير التراكيب يؤلف بها روائع الصور الشعرية، ولا تزال مخطوطات بعض أولئك الأدباء موضع دراسة النقاد والأدباء، يتفقهون بها في أسرار اللغة ويزدادون بصراً بخصائص الألفاظ والتراكيب، ويرون كيف يحل لفظ محل لفظ فتشرق به ديباجة البيت من الشعر ويسفر به وجه المعنى جميلاً بعد خفاء والتياث
على أن أولئك الأدباء برغم احتفائهم بالأسلوب ذلك الاحتفاء لم يغلبوه على المعنى ولم يجعلوه غاية في ذاته، ولم يصبح الأدب في أيديهم براعة في اللفظ وتأنقاً في النسج، بل ظل اللفظ لديهم دائماً خادماً للمعنى، وظل غرضهم الأول من الإنشاء الإفصاح عن الفكر والشعور. ولم يسرف الأدباء في الاحتفاء باللفظ إلا في عهد انحطاط الشعر في بعض القرن الثامن عشر، في حقبة لم تنجب شاعراً كبيراً، ولم يحض بالشهرة في حياته والذكر بعد موته من أدباء الإنجليزية إلا من أهلته لذلك نظرة في الحياة صادقة عميقة، ولم تكن كل بضاعته أسلوباً مزخرفاً، منمقاً، بل عرف من كبار الشعراء من لم يكن يولي أسلوبه كبير احتفاء، ومع ذلك رفعه فكره الجوال في آفاق الحياة، ونفسيته الجياشة بأشتات