الأحاسيس إلى قمة المجد، فبيرون كان كما قال عن نفسه لا يعاود النظر في بيت شعر خطه، ووردزورث نظم كثيراً من بدائع شعره في أبسط لفظ يستعمل في النثر والتحدث، وهاردي لم يكن شعره إلا نثراً جيد النظم عارياً مجرداً من تلك الألفاظ الشعرية ذات الأجواء المعنوية، ومن ثم لا يسمو به النقاد إلى طبقة الفحول كشكسبير وملتون، بل ينزلونه الطبقة الثانية بين الشعراء، وهذا الأسلوب العاري المجرد يزداد شيوعاً في العصر الحديث
أما في العربية فكان الأمر على نقيض ذلك: فلم يكد يكون بين كبار أدبائها بعد دخول الأدب طوره الفني من أهمل الأسلوب واحتفى بالمعنى وحده، وإن كان أكثرهم ليقدم الأسلوب على المعنى ويحتفي للفظ ورنينه أي احتفاء وإن تضاءل المعنى وتفه، فإذا كان النثر العربي يبلغ ذروته من الكمال على أيدي ابن المقفع والجاحظ، والشعر العربي يجري إلى غايته في آثار المتنبي وابن الرومي والمعري، حيث يجتمع صدق النظرة وجمال الأسلوب فإن غيرهم من مشهوري أدباء العربية إنما نبه ذكرهم لبلاغتهم اللفظية، لا لفلسفة في الحياة معدودة، ولا لرسالة في الأدب عتيدة. ومن أولئك البحتري ومن نحا نحوه من الشعراء والمداحين، والصاحب ابن عباد ومن سلك دربه من المنشئين المسجعين؛ فالناظر في الأبيات الآتية من نظم أشهر شعراء العربية، يرى أن حظها من المعنى ضئيل ونصيبها من جزالة الأسلوب ورنين اللفظ وعذوبة الموسيقى كبير، قال أبو نواس في مدح بعض الوزراء:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقال البحتري في النسيب:
لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود
ومتى يساعدنا الوصال ودهرنا ... يومان يوم نوى ويوم صدود
وقال أبو تمام في رثاء طفلين:
مازالت الأيام تخبر جاهلاً ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا
بدران شاء الله أن لا يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
إن الفجيعة بالرياض نواضرا ... لأجل منها بالرياض ذوابلا