كانت مصر كلها طوال الأسبوع الماضي، من صباح أحده إلى مساء سبته، في سكرة من الطرب النشوان، وفورة من الحماسة المضطرمة. والطرب والحماسة كلمتان مسكينتان لا تقعان من حقيقة الأمر في كثير ولا قليل. وكيف تدرك من هاتين الكلمتين وأشباههما تلك الحالة العجيبة التي قامت بسكان هذا البلد الوفي أبنائه ونزلائه لمقدم الفاروق، وتتويج الفاروق، ومواهب الفاروق، فجعلت كلامهم وأنغامهم وأحلامهم هتافاً لمجده لا يفتر، ودعاء لعهده لا ينقطع؟!
انفعلت قلوب الناس بما أجنته للمليك الشاب من الإعجاب والحب والأمل، فعبرت عن ضوء رجائها، وحرارة ولائها، بهذه الملايين من المصابيح الكهربائية، رصعت بها وجوه العمائر والمتاجر، وجعلت منها عقوداً منظمة على أطوارة الطرق، وأبراجاً متوجة في بُهَر الميادين، وأقواس نصر في مداخل الشوارع؛ وافتن فيها الصناع فرسموا بها أشكالا تعبر عن شتى العواطف، وخطوطاً تسفر عن خالص الأدعية؛ ثم راحوا يرقصون ويهزجون في إشراق باهر تشعه القلوب المتهللة، وتعكسه المدينة المتألقة. ولكن ماذا يصنع الكاتب وقد انبثق في حسه هذا النور، وانفتح في ذهنه هذا العالم، إذا أراد أن يمثله للخاطر البعيد، ويسجله في صحيفة الأبد؟ هل يملك إلا ريشة من المعدن لا تلين، وألفاظاً من اللغة لا تدل؟ وهل اللغة مهما اتسعت موادها إلا أبعاض من صوت النفوس، وأصداء لهتاف القلوب؟ ماذا يقول الكاتب أو الشاعر في ثلاثة ملايين من الناس تجردوا من هموم الحياة وأنانية الذات، واحتشدوا في مسالك القاهرة يسبحون في أمواج هذا النور المعبر، وقد انطوى كل منهم على عالم زاخر بالأماني والأخيلة والأحاسيس، ولا حديث لهم ولا نجوى إلا ملكهم الأعز، وطالعه الأسعد، وعهده الأغر، وخلقه الأكمل؛ هذا يذكر في فخر حادثاً من حوادث ديمقراطيته، وذاك يروي في إعجاب نادرة من نوادر عبقريته، وذلك يقص في زهو عملا من أعمال نبله؛ والألسنة كلها في كل مكان أشبه بلواقط الراديو ذوات المصدر الواحد تردد الحديث نفسه بصوته وطريقته؟
قد يحتشد الناس في أيام الزينة ومواكب النصر بدافع الإيحاء أو الإغراء أو الفضول فيقفون عند الظواهر والأشكال لا يحسون الروح ولا يلمسون الجوهر ولا يحفلون الغرض، ولكن مواكب التاج كانت أنساً خالصاً لكل فرد، وعرساً خاصاً بكل أسرة؛ ساهم فيه كل