للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بماله (نقوطاً)، وبقلبه إخلاصاً، وبسروره غبطة. وهذه هي العقدة النفسية التي تنحل أمامها قوى الكاتب قبل أن يجد لها وصفاً أو يحدد لها علة.

رأيت جلالة الفاروق في حفلات التتويج عن كثب، وفي ذهني صورة طبيعية للغلام الشابل الذي يهدف للثامنة عشرة من سنيه، فإذا رجل وقور الطلعة، رزين الحركة، ظاهر الأبهة، باهر الجلالة؛ نظرته نظرة روحه لا نظرة عينه، وعقله عقل جسمه لا عقل سنه: فأدركت حينئذ معنى قول الشاعر الفرنسي: (إن النفوس التي تولد على درج العرش لا تنتظر عبقريتها كرور السنين) وتعليل ذلك أن الطفل الملكي متى كان سليم الفطرة تستجيب غرائزه إلى وحي العمل الذي يُهيأ له؛ وعلمه يأنه يهيأ لوراثة الملك يحمله على اتخاذ سَمْته وسِمَتِه؛ ثم ينشأ في جو يساعده ما فيه من النظام والاحترام ومظاهر القدرة وتقاليد الأسرة على سمو المدارك ونضوج الرجولة؛ ولا ينفك يسمع في مجاري دمه النبيل أصوات أجداده الأمجاد تأمر وتنهي، وتشير وتوحي، وترسم وتدل؛ فإذا رفع إلى العرش واستوى عليه لم يجد في نفسه شيئاً جديداً ينكره، ولا في جوه مظهراً غريباً يستريبه؛ فيسير أمره على ما رسمته النشأة، وهيأته الطبيعة، لا تكلف ولا تعسف ولا تظاهر ولا تذبذب.

لذلك انتقل الفاروق من حال التلميذ إلى حال الملك في سهولة أدهشت الناس في مصر وفي غير مصر.

وليس لهذا الدهش موضع، فإن الرجل الذي يختل توازنه ويضطرب أمره، هو الذي يتحول بغتة من العجز إلى القدرة، ومن الخضوع إلى السلطة، ومن الصعلكة إلى المُلك، فيستر صغره بالكبر، وضعفه بالاستبداد، وفشله بالخديعة؛ ثم لا يطمئن إلى حاله، ولا يستقر في محله، فيتعلق بالظنون، ويستمسك بالدسائس، ويعتصم بالترفع؛ ولكن الفاروق العظيم ربيب المُلك وسليل محمد علي وإبراهيم وإسماعيل وفؤاد يرى نفسه طبيعياً في موضعه؛ وموضعه فوق الحكم وفوق الأحزاب وفوق المطامع، فلا يمكن أن يكون إلا كما تراه. ومخايل الفاروق ودلائل الحال تؤكد أنه سيكون في عهده السعيد المجيد موئل الدستور، وملاذ الحرية، وحارس الدين، وراعي الشعب، ومرشد الحكومة في الحيرة، ومرجع الأحزاب في الخلاف؛ أما ثقافة العقل والجسم والخلق فتلك رسالته التي وكل الله إليه أداءها بالتشجيع والتشريع والقدوة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>