(بين يدي الآن رسائل من بيروت وحمص وبغداد والإسكندرية وأم درمان من إخوان كرام ما كان لي شرف الاتصال بهم، كلهم يسألني لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام، ويشفق أن تكون الأرزاء قد هدت ركني وكسرت قناتي. . . فكتبت هذا الفصل هدية إليهم وجواباً)
(ع)
أعترف أنها قد جفَّت قريحتي فما تبضّ بقطرة، وكلّ ذهني، ومات خيالي، ومرت علىّ أيام طوال لم أستطع أن أخط فيها حرفاً، وعدت من العيّ والحصر كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجر للبلاغة في مضمار. . . وما أدري أأبرأني الله من حرفة الأدب التي ابتلاني بها وابتلاها بي، أم هي سكتة عارضة وُعقلة مؤقتة، كالذي يعرض للشعراء والكتاب، ثم تزول السكتة وينطلق اللسان، ويعود أحدّ مما كان؟. وما أدري أعّلة ذلك الزواج، وقد قالوا إن زواج الأديب يؤذيه وتغور منه ينابيع فكره، أم هي الرزايا والآلام، وما يغيظ الأديب من انحراف الأمور عن صراطها، وتقدم من حقه التأخر، وتأخر من يستأهل التقدم، وضياع الحقوق وغلبة الجهال، أم هذه العزلة الحسية والروحية التي أبت إليها طوعاً أو كرهاً، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة، لا يسقط فيها حجر فيثير أوحالها ويخرج دررها؟
إني كلما أخذت القلم لأكتب، أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني؛ وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب، أو أنظر في صحيفة. فأقبل على القراءة، وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل، وأني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر. . . ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامية ومحبة الخمول، بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلب القلوب. . .
ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً