للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المغزل. والريف. ونفسي]

إلى الشاعر التائه صاحب (أرواح شاردة) الصديق علي

محمود طه

للأستاذ راشد رستم

شردت من الحضر إلى الريف - وليس العجب أن يشرد المرء من الحضر إلى الريف - وإلا فأين معنى الشرود، وأين موطن الشرود، بل رأين الروح الشرود. . .

أما أنت يا صاحبي، فقد شردت من الريف إلى الحضر! ذلك إذا عددنا مصر، بنيلها العظيم، وزرعها النضير، وإنسانها الكريم، ريفاً وأي ريف، ثم حسبنا بلاد الغرب بمياهها المعدنية، ومدنها الفنية، ورهطها النشيط، حضراً وأي حضر. . .

فهل أنا موفق هنا معك، أم أني شرود كذلك في هذا الخيال وهذا التشبيه؟ على أنه كانت الأولى فإني منتصر، وإن كانت الثانية فلست أنت المنتصر. . .

ولكن خبرني، ما بالي أثير عليك غبار هذا الجدل وأنا في سكون البكور من صباح منير، وسط ريف هادئ بديع! لماذا هذا الجدل وأنا في جو نقي نظيف، حيث البساطة والسهولة والوضوح! في هذا الصباح البدري الذي لا تصيح فيه الديكة إلا لكي تدعو النيام إلى القيام، والذي تحمل فيه الطيور النطاطة تحيات النهار - وهذا أول النور وآخر الظلام!

هذا صباح الريف، سكون ولكن حياة. وهاهي الطبيعة، ناعسة تتمطى ولا تقوم. وأنا صاح قائم اذكر قول الشريف الرضي، رضى النفس، شارد الروح، وهو يقول:

وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ... حتى تكلم عصفور على علم

وهأنذا أتحدث عن هذا الصباح الغريب، فقد كان صباحاً ساكناً، ثم ثار، ثم سكن. أثبت الحقيقة كما جاءت فيه - والحقيقة أصل لكل خيال - فقد جلست الساعة بعد هذا الشروق البهي، و (مغزلي) في يدي، وأنا في المكان من الصعيد السعيد البعيد. . .

وهذه هي الأرض تغمرها مياه النهر الكريم، تحفها سلسلة هذه الجبال الراسيات، يضم القوم بينهما هذا الوادي الأخضر السهل الفسيح الممتد

وإذ أنا في هذه الحال، هادئ النفس هادئ البال، إذا بالبلدة الناعسة، وهي تطرح عنها

<<  <  ج:
ص:  >  >>