أطراف الليل، تستيقظ على صوت مزمار وطبل - جماعة يحجون إلى دير بالجبل بعيد - حتى إذا عادوا من نذرهم وقد مروا علينا بالطريق، صبحونا مبدرين مبكرين، ودخلوا القرية وافدين؛ حيونا بأصوات البشير، وتلقيناهم بأحسن تكريم، وتبادلنا وإياهم في ساعة هذا النهار المنعش الصبوح، صفاء قلوب في صفاء قلوب
ثم أداروا علينا من أنغامهم موسيقى ذات دوي بعيد وحنو قريب، فأخذت القوم نشوة اليقظة بعد فترة الرقاد الطويل، وتولتهم هزة الفرح، فراحوا وزامر الحي يزمرون ويطبلون، كما أنشئوا (يتحاطبون)، يحملون عصيهم في الفضاء، تدور بهم وهم بها دائرون، يبتعدون ثم يلتفون، وفي خفة يقفزون، ليس فيهم طالب ولا مطلوب، ولا غالب ولا مغلوب، إذ هم في لهو يمرحون، وأهل القرية من حولهم معجبون مبتهجون
حتى إذا تحول الطرب ودارت للرقص أنغامه، دارت في الساحة من الرجال أربابه، يتفكهون وإن كانوا به يتباهون؟
غير أن للخلخال رناته، وللخال المحجب ساعاته، وقد دق الطبل لبنات الحي دقاته، فنزلن إلى الساحة يخطرن وللقلب وقتها دقاته، وأثارت بنات الحي في الحي للرقص موجاته، فارتفعت في ميزان (الحرارة) شاراته، وازدحم الميدان واشتدت حماسا ته، فقد دارت بنات الحي في الميدان للرقص دوراته، وحمي الوطيس واشرأبت من الجمع هاماته؛ هؤلاء هن للدلال والوقف والعطف سيداته، وهؤلاء هن للف والميل والدوران رباته:
صان الإله رشيقةً مياسةً ... أربتْ على الغزلان في الجولان
ثم خلت الساحة من حسان راقصاته، إلا التي هي من بنات الحي أبين باناته. هيفاء هيفاء، تخطر فوق الثرى وكأنها تصعد في الجو إلى ثرياته، خفة ورشاقة وسناء؛ بينما تراها هناك. وهي أن حنت على المشيب أقبلت عليه ترعاه، فتجعله من فرط الرضا شباباً. . . فإذا تجنت على الشباب تحولت إليه تسبيه هياماً فتجعله هباء أو سراباً. . .
وكأني بها حمامة الصبح وهذا هو الصبح قد لاح، فهل تبعد يا أليف الهوى وهذا هو الإلف قد بان وسبحان الفتاح؟ تعال. تعال. خذ الخصر بيمناك، ودر بالساق مع الساق، ولا تقل أين المساق. إن للحياة مداها، وللروح في حب الرضا قرباها، ومناها، ونجواها. . .
وانظر الآن! هذه هي الخيل تجري في أعنتها وفق هواها، تدب دبيب السعد والخيلاء