آمنت ولازلت أؤمن بأن في التراث العربي العريق، كنوزاً مطمورة، تحتاج إلى من ينقب عنها، يخرجها من كهوف النسيان، إلى عالم النور والعرفان. وقد بينت في مقالي الأسبق (صحيفة مطوية في البلاغة العربية) أن نظرية الإدراك بالإجمالي والتفصيلي، لم تكن وليدة القرن العشرين، ولا هي بنتاً من بنات أفكار علماء النفس المحدثين، بل سبق إليها عالم من علماء العرب منذ تسعة قرون، وهذا مثل آخر من آلاف الأمثال أسوقه للأدباء والباحثين الذين بهرهم زخرف الحضارة الأوربية، علهم يعطون الحضارة الإسلامية التي أساءوا الظن بها، قسطاً وافراً من العناية.
لقد كانت الفلسفة المسيحية تذهب إلى عهد قريب، إلى أن الطفل الشرير بطبعه، وأنه يولد محملاً بكثير من السرور والآثام فيجب أن يقمع ذلك فيه بالشدة والعنف، وأن يسلك به سبيل التعذيب والإيلام. وقد نحا المتنبي هذا المنحى في شعره فقال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد=ذاعفة فلعلة لا يظلم
وهذا عين الخطأ، فلا الطفل شرير بطبعه كما تقول الفلسفة المسيحية، ولا هو خير بطبعه كما يقول (جان جاك روسو) كما أن عقليته ليست كالصحيفة البيضاء يسطر المربي عليها ما يشاء، كما ذهب إلى ذلك (جون لوك).
ولكن الطفل يولد مزوداً بالغرائز والنزعات الفطرية، وهي ميراثه من أبويه ومن النوع الإنساني، فعلينا أن نعمل مع هذه النزعات لا ضدها، وأن نحاول إعلاءها، وتكوين العواطف النبيلة فيها.
وهناك مرحلتان من مراحل النمو لهما أكبر الأثر في حياة الناشئ فإن هو جازهما بسلام، فقد اجتاز العقبة كلها إلى شاطئ الأمان، وإن تعثرت خطاه فيهما أو لعبت بنفسه أعاصير التربية الصارمة فإنني أخشى أن تهوى بنفسه أمواج الأمراض النفسية إلى قرار سحيق.