للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في الطائرة]

للأستاذ نجاتي صدقي

كان المسافر من فلسطين إلى سوريا في الزمن الغابر يشعر بأنه مقدم على رحلة محفوفة بالمغامرات والمخاطر، فيقطع المسافة الطويلة إلى عكاء بالدلجانس، ثم يستقل حمارا ويجتاز به معبر الناقورة. . . ثم يتابع السفر بدلجانس آخر.

وكان معبر الناقورة هذا طريقا جبليا ضيقا، يقوم على أحد جانبيه جبل شاهق، وتترامى على الجانب الآخر هوة سحيقة تنتهي إلى صخور مسننة يداعبها البحر الأزرق العميق مداعبة هادئة، فإذا ما نظر إليها المسافر الراكب شاعت في نفسه موجة من الهلع، وفضل اجتياز المعبر سيرا على قدميه. . أو زحفا على أربعته.

ثم يصل المسافر المدينة التي يقصدها، ويقص على أهله وذويه ما لاقاه من أهوال أثناءرحلته الشاقة. . . ولا يغرب باله طبعا عن أن يروى لهم وقائعه مع قطاع الطرق، وفتكه ليلا بالضباع التي ينبعث الشر من أعينها، وبطشه نهارا بالذئاب الجائعة ذات الأنياب الحادة والمخالب الجارحة.

هكذا كانت مشاق الأسفار في الأيام الغابرة، أما مشاقها في أيامنا هذه فأليك ما حدث في الطائرة:

كنت مرة مسافراً في الطائرة من اللد إلى حلب، وكان الفصل شتاء، وكانت الطائرة تقل شخصين فقط هما أنا وتاجر أغنام يدعى أبا محمود، وهو رجل في حدود الخمسين، طيب القلب، يلبس القمباز، ولا ينفك عن مداعبة حبات سبحته القيقية. وبعد أن قطعنا مسافة في الطائرة حدث ما أثار دهشتي. . . رأيت تاجر الأغنام وقد انكمش على نفسه، ممتقع اللون، زائغ البصر، فاغر الفم، مشنج اليدين. . فدنوت منه وسألته: ما بالك يا رفيق الطريق؟. . .

فأجابني بصوت بكاء: أريد النزول!. .

قالت هذه طائرة وليست سيارة، ولن تتمكن من النزول

إلا في مطار حلب. . . الأول تصعد في الجو؟.

قال: نعم. . . لأول مرة يا لشقائي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>