للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[على هامش (الوجودية)]

راعى الغنم في باريس

للدكتور على شرف الدين

كانت بقايا الشمس الغاربة ترف في جباه العمائر القائمة في ميدان سان جرمان، فيجرى ذائب نضارها في سواد عرانيها، كما يجرى الشاحب الحزين في لمة طافت بها الذكريات. وكان الليل قد أخذ ينشر ذوائبه الغبش على جبين النهار، ويغزو بسكونه الرهيب ضجة الحضارة الصاخبة. بينما كان راعى الغنم قد انتحى جانباً مستنداً إلى جذع شجرة هناك، ومن حوله أسرته الخالدة يؤلفها عنزاته الأربع، وكلبه القروي: أسرة هي رمز الوفاء في كتاب الأيام.

كانت صفارته ترسل أنغاماً واهنة لا تكاد تصل إلى السمع إلا بشيء من عمل النفس، ولكنها على هوادتها كانت تصعد في السماء رائعة لتستحيل إلى دعوات ضارعة في عالم اللانهاية والخلود.

كانت ألحانه لا تحتاج إلى خيال شاعر، ليرددها إلى عالم آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه، ولقد ذكرت عندها قول أندريه جيد في السيمفوني باستورال، وهو يجري آراءه في الحياة والفن على لسان الباستير، انه يري (أن الموسيقى لا تصور العالم كما كان، ولكنها تصوره كما يمكن أن يكون لو خلا من الشرور والخطايا).

كان لألحان الراعي روعة في النفس يزيد منها إقبال الليل في سكونه، حتى كأنها دعوة السماء إلى القلب، فانعطفت قبالته وأحسست كأنما أنظر في باريس إلى أثر مقدس، يثنيني عن التقدم إليه جلال الزمن. وروعة الماضي. كان هو الراعي في كل شيء غير سراويلات لم يشهدها الشرق في رعاته، أوربي تغمره الضارة المادية، وتأخذ حياته من أقطارها ولكنه كان عنها بعيداً، وفيها زاهدا لقد ورث عن أبيه (الراعي الخالد) هذا الوجه الهادئ، الذي لفحته حرارة الصحراء، فتركت فيه هذا الرضا العميق، يكشف عن نفس يعمرها اليقين والأمل. ولقد كنت تقرأ في أسارير وجهه شيئا آخر أقوى من اليقين والثقة، كنت تقرأ فيها فلسفة العزلة التي تظهر فيها النفس الإنسانية أقوى ما تكون فهماً وإشراقاً. فيلسوف لم يأخذ فلسفته عن منهج ديكارت، ولكنه أخذها عن أستاذ لا يضل أبدا: عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>