ما كان لي أن أعرض إلى هذا الموضوع بعد ما تكلم فيه الأستاذان الكبيران العقاد والزيات، لولا أن في النفس منه أشياء. وإن آراء العامة فيه يعمها الضلال البين، ويعوزها التقويم؛ وإن من الناس من يدعي الأدب ثم يزن أهله بميزان الحكومة، فيضع قيمتهم الأدبية في كفة، ويضع في الكفة الأخرى درجتهم في (الوظيفة) ومبلغ ما يقبضون من مرتب. فالشاعر الذي يعلم في مدرسة ابتدائية، لا يساوَى بالشاعر المدرس في الثانوية؛ والأديب الذي يعمل في تفتيش اللغة العربية أكبر من الأديب الذي يشتغل بالتدريس. أما الشاعر الذي جعلته الوزارة أو أصارته الأيام أول المفتشين، فواجب وجوباً أن يكون شاعر الشرق كله، أو شاعر العرب على الأقل الأدنى. . ويدللون على هذا المنطق السقيم بأن الحكومة لو لم تجده أعلم العلماء وأبرع الأدباء ما أحلته هذه المنزلة؛ فالطعن في تقدمه طعن في الحكومة ونفي لحسن التقدير عنها. . . وامتد هذا الجهل إلى الصحف، فصارت تقدم من الأدباء من قدمته الحكومة، وتكتب في رأس المقالة كما يكتب صاحبها في ذنبها، ودرجة الوظيفة الحكومية التي يقوم بها، كأنها هي الشهادة له بتمكنه في الأدب وعلو كعبه فيه، وغدا من المستحيل أن يقدم شاعر مجوّد محسن ولكنه مدرس عادي، على مفتش أو رئيس ديوان ولو كان دونه إحساناً وتجويداً، كأن شعر الوزير في الشعر كشخص الوزير في الناس، يتقدمهم ويعلوهم ولا يوزنون به ولا يتقدمون عليه. ومشى هذا المنطق السقيم وهذا الجهل البيّن في الناس، حتى صار هو القاعدة المقررة والأصل الثابت، وصار غيره هو الفرع الذي يحتاج إلى دليل. . .
وما من أحد يدرك هذه العلة إدراك الأديب الموهوب الذي اضطرته الحاجة إلى (الوظيفة) وأجبره الكدح للعيش على أن يفكر برؤوس رؤسائه الفارغة لا برأسه هو، فلا يكتب إلا ما يشتهون، ولا يقول إلا ما يريدون، وعلى أن يضع أدبه وذكاءه ومواهبه بين يدي مفتش قد يكون جاهلاً أو يكون مخطئاً أو يكون لئيماً ينتقم لغباوته وجهله من الأذكياء العلماء. والمدرس على ذلك كله ملزم باتباع رأيه والصدور عن مشورته. وإذا كتب ينقده في