مضى الركب على وجهه يطأ الحزونة ويجوب الصخر في المفازة الجرداء، لا يتكاءده سهل ولا جبل، فما هو إلا أن انتهى إلى (ثنية المرار) من أسفل مكة، حتى حط رحاله ووقف ينظر ما يكون من أمره وأمر قريش. . .
أربع عشرة مائة من أصحاب محمد عليهم الدروع والحلق، وفي أيديهم سيوف طالما رويت من دماء المشركين علا بعد نهل؛ لو شاءوا لدخلوا (مكة) دخول الفاتح لا يقف دون غايته شيء ولا يثبت له بطل؛ ولكن محمداً وأصحاب محمد لم يسعوا مسعاهم ذلك لحرب يحشون نارها في الشهر الحرام في البلد الحرام؛ وإنما جاءوا معتمرين حاجين يدعون دعوة السلام في دار الأمن والسلام. . .
أفترى قريشاً وقد أخرجت محمداً وأصحابه بليل منذ ست سنين فأجلتهم عن ديارهم وأموالهم عنوة، تأذن لهم اليوم أن يدخلوا البلد الحرام في عدة وعدد ليستلموا ويطوفوا ويدعوا دعوتهم بين سمع العرب وبصرها؟. . .
وكتبت قريش كتائبها وأجمعت أمرها على أمر؛ وخرج بنو عبد مناف وأحلافهم في جلود النمور، وعهم النساء والولدان، يقفون لمحمد على الطريق معاهدين ألا يدخلها عليهم عنوة أبداً!
ونظر محمد إلى أصحابه عليهم الدروع والحلق، وأيديهم على مقابض سيوفهم يريدون أن يقابلوا عدوانا بعدوان؛ ثم أرتد نظره إلى قومه الذين فارقهم وفارقوه، قد اجتمعت جماعتهم هناك تترقرق دماؤهم بين اللحى والترائب؛ ثم هتف محزوناً أسوان:(يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب! فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة!)
هنا جيش وهناك جيش، والرسل ما تزال ساعية ذهاباً وجيئة تحاول (الهدنة) بين العسكرين المتعاديين، حفاظاً على حرمات الشهر والبلد؛ وهدأت فورة الدم حيناً ريثما ينتهي أمر المتفاوضين إلى أمر؛ ولكن هناك، في مكة، على مسيرة ساعة أو بعض ساعة، كان بضع عشرات من المسلمين يعض الحديد على أرجلهم، ويعانون ذل الأسر في ظلمات