يبدأ سبنسر كتابه عن تطور الحياة بتعريف الحياة نفسها بأنها التوفيق بين الكائن الحي وبيئته، ويتوقف كمالها على كمال هذا التوفيق. فهذا حيوان يكتسي بالفراء ليتقي لذعة البرد، وذلك قد أعد لاختزان الطعام لما عساه أن يصادفه من قحط وإجداب، وثالث يستطيع أن يتلون بلون الأرض التي يدب فوقها حتى لا يبصره العدو فيفتك به، إلى آخر هذه الوسائل التي زودت بها الطبيعة الأحياء، أو بعبارة أصح، التي قسرها الأحياء قسرا على أن تزودهم بها للذود عن حياتهم، مما يعلم القراء جميعا. وبديهي أن هذه الملاءمة لم تبلغ ولن تبلغ درجة الكمال ما دام الحيوان مخلوقا ناقصا يعتريه الضعف والموت، ولكن مهما يكن من أمر فهو دائب لا يني عن السعي الحثيث في زيادة هذه الملاءمة شيئا فشيئا، بان يكمل هذا النقص تارة وذاك طورا، وينقح من أعضائه حتى تتمكن من مجاوبة الطبيعة ومقاومتها، ومعنى ذلك أن الكائن الحي يشعر بالحاجة أولا ثم ينطلق في سعيه جيلا بعد جيل يستمد من الطبيعة عضواً يسد له ما أحس من نقص، فهو مثلا يشعر بحاجته إلى النظر لكي يتبين ما يحيط به في دقة ووضوح فيكون لنفسه على مر الدهر عضوا للإبصار وهكذا قل في سائر الأعضاء،
وليست الحياة إلا هذا التوفيق الذي لا تنقطع أسبابه، ولا تقتصر هذه المحاولة على أفراد الحيوان، بل تعدوها إلى الأنواع، إذ يسعى كل نوع باعتباره كل الملاءمة بينه وبين البيئة. ويرى سبنسر توافقا عجيبا بين تكاثر الحيوان وما يحيط به من الظروف الطبيعية، فهو يرى أن الأصل في التناسل هو تخلص الكائن الحي من زيادة في حجمه لا تتناسب مع جهازه الهضمي، أي أن كتلة الكائن الحي إذا اطردت في النمو، تصل إلى حد لا تستطيع معه المعدة أن تسد حاجتها في الغذاء، وعندئذ يضطر الحيوان إلى ان يقف نموه عند حد معين، وكل زيادة تجيء بعد ذلك يتخلص منها بان يخرجها نسلا. وتطبيق ذلك، أن الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، يأخذ جسمه في النمو إلى حد محدود ثم يقف نموه إذا ما جاءت