طائر الليل. طائر العزلة. طائر الصحراء. طائر الصيحة التي فيها من البشرى وفيها من التبريح وفيها من التسبيح.
تعني (الكروان)؟
نعم، إياه أعني، وهو صامت الآن!
صامت منذ أشهر لا تسمع له من وراء الأفق تلك الصيحة التي كأنها نصل من اللحن يشق ستراً من السكون، أو كأنها عقيقة من البرق تنفتح في سدفة من الظلام، أو كأنها نفثة من الجوي تندفع في هدأة من الصبر الطويل.
وكأنما سكون ليل الشتاء في هذه الآونة الموحشة إصغاءٌ مرهف وحنين مكتوم إلى ذلك الصوت المغيّب الذي سيطول غيابه. . . وسيعود!
سيعود، وسيدير لنا الربيع قالبه المحفوظ من الصرخات والألحان، وسنسمعها ولا نمل سماعها ما كتب لنا أن نسمعها. فهي محفوظات يضن بها الربيع ألا تتكرر، ونضن بها نحن ألا نتذكر، ونضن بها نحن - إن تذكرناها - ألا نعيش معها كما عشنا من قبل سنين وسنين، كل صيحة منوط بها نبأ قديم: نبأ قُل إنه عذب رحيم، وقل إنه موجع أليم. فما بين الرحمة والأم من حدود في هذه المحفوظات، وما لهذه الحدود إن طالت من مساك.
سنوات، يا لها من سنوات!
قل عشر، وقل إن شئت عشرين!. . . بل زدها إن شئت قليلاً، فما هي بأقل من بضع وعشرين
عمرُ أكبر (كروان) فانٍ
ولكنها أصغر من لمحة في عمر (الكروان) الخالد: الكروان الذي سمعه (آدم) أول الدنيا، والكروان الذي سيسمعه أبناء (آدم) آخر الزمان، والكروان الذي سمعته أنا والشعر أسود كجنح الليل الذي يصدح فيه، وسمعته والشعر يشتعل، وسأسمعه وكل مشتعل في هذه البنية رماد.
سمعته ولبيت كل دعوة من دعواته، وخرجت له في الليالي السود. . . لا بل في الليالي