القراءة فن له قواعد وأصول. ومهما جد القارئ واجتهد فلن يحصل على ثمرة مجهوده إلا إذ اتبع تلك القواعد والأصول اتباعاً دقيقاً. وكلامنا هذا لا ينصب على كل ما يقرأ، بل على الأدب وحده باعتباره أثمن وأرفع أنواع القراءة؛ ولا على كل من يقرأ، بل على من يعتبر الكتاب صديقاً ومرشداً ومعلماً، ومن تضطرم في قلبه جذوة الشوق إلى المعرفة وفهم الحياة والتمتع بها إلى أقصى حد ممكن واكتناه أسرارها
ينبع الأدب من قدس أقداس النفس، يضمنه الأديب زبدة حياته، وصفوة اختباراته، وما يضطرم في قلبه من آلام وآمال وما يصطرع في ذهنه من آراء عن حقيقة الحياة والموت والقدر واللذة والألم والطبيعة والخالق وغيرها من مشكلات الحياة التي لن تحل أبداً. والأديب هو ذلك الشخص الدقيق الإحساس الرقيق الشعور الذي يتأثر بكل عوامل الحياة أتم التأثير وأقواه، والذي منحته الطبيعة القدرة على التعبير عن آرائه واحساساته التي دفعت به إلى الكتابة. والكتاب الجيد من أثمن النعم التي تتيحها الحياة لمن حبته الذوق الفهم، لأنه خلاصة حياة عظيمة غنية واسعة الأفاق بعيدة الغور؛ وهو ينبوع عذب، فيه ري وفيه حياة لأثمن وأرفع ناحية من نواحي الطبيعة الإنسانية. فالكتاب الجيد يعمق ويهذب شعورنا ويوسع آفاق نفوسنا ويقوي قدرتنا على التفكير ويفتح أعيننا على أنواع من الجمال لم نكن نعرفها أو نحس بها. والإنسان مفهوم بحب الحياة، ودّ لو عاش أعماراً مضاعفة وتذوق كل ما تفيض به الحياة من لذات وآلام، ولكن العمر شحيح. ومن جهة أخرى فالحياة بخيلة لا تتيح أو تسمح لكل إنسان أن يقلب أبصاره بين آفاقها ويخوض بحارها باحثاً عن دررها. لم تتح الطبيعة هذا إلا لأشخاص معدودين جعلت كل واحد منهم أشبه بقيثارة تستنطقها كل أنغامها، وهم الأدباء والشعراء. وبقراءة ما خلف هؤلاء نشبع حب الحياة في نفوسنا. فالكتب تضيف أعماراً إلى أعمارنا، وهي سياحة في المكان والزمان. فالقارئ الجالس على كرسيه في غرفة ضيقة يطوف بذهنه في فجاج الأرض كلها، بل يرقى إلى السماء ويتملى أنوارها، ويرتد إلى الماضي السحيق يحدق في كهوفه وظلماته، ويتقدم إلى المستقبل البعيد يتملى بهاءه وجلاله. فإذا كان الأدب على هذه القيمة