يستحثونا على محاولة مثل هذا المجهود في أنفسنا - يجتهدون في إطلاعنا على شيء مما وقعت عليه أعينهم وبعبارات منتظمة موزونة يقولون لنا - أو بالأحرى - يوحون إلينا بأشياء لم توضع الألفاظ للتعبير عنها. وسواهم يبالغون في تعمقهم ويمعنون فيه؛ فتراهم تحت ستار هذه الأفراح وتلك الأحزان التي يمكن التعبير عنها بالألفاظ، يتمسكون بأشياء لا علاقة لها ألبتة بالكلام، أو ببعض نغمات من نغمات الحياة والتنفس هي أعمق في صدور الرجال من أدق مشاعرهم لأنها تمثل الناموس الحي الذي يختلف باختلاف الأشخاص، ويعبر عن كبتها ووجدها، وعن حسراتها وآمالها. فإذا استخلصوا تلك النغمات وضاعفوها فانهم يفرضونها علينا ويلفتوننا إليها، ويعملون على الاندماج فيها عفواً وبغير ما دافع منا كما يندمج المتفرج في حلبة الرقص دون أن يشعر، ويحملوننا بذلك على أن نهز في خبيئة نفسنا أوتاراً متحفزة ترقب من يلمسها لتصدح وترتفع نغماتها
فسواء أكان الفن رسماً أو تصويراً أو شعراً أو موسيقى فلا غرض له إلا أن يُبعد الرموز النافعة والاصطلاحات المشروعة المسلم بها في المجتمع وكل ما يستر الحقيقة عنا ليقف بنا إزاء الحقيقة بالذات وجهاً لوجه. إن الجدل بين المذهب الوجودي والمذهب المثالي في الفن نشأ من نزاع على تلك النقطة. فلا شك في أن الفن ليس إلا مظهراً جلياً مباشراً للحقيقة، بيد أن هذا السمو في الإدراك يستلزم القطيعة مع العرف المصطلح، ونزاهة غريزية محصورة في الحس أو الضمير، كما يستلزم كذلك شيئاً من اللامادية في الحياة وهي ما اصطلحوا على تسميته دائماً بالمذهب المثالي، بحيث يمكن القول، بغير ما تورية أو مجاز، بأن المذهب الوجودي هو في العمل بالذات، بينما المذهب المثالي هو في النفس، وأنه لا يمكن العودة إلى تلمس الحقيقة إلا بقوة الخيالية دون سواها