دائرة محاطة بسياج تتبارى فيه قوتنا مع سواها من القوات؛ فإذا ما سحرنا العمل وجذبنا إلى المجال الذي اختاره، في سبيل مصلحتنا، أخذنا نعيش في منطقة متوسطة بين الأشياء وبيننا، خارجة عن الأشياء وخارجة عنا كذلك. بيد أن الطبيعة توجد، على سبيل اللهو، نفوساً أكثر انفصالاً عن الحياة. إنني لا أتكلم عن ذلك الانفصال المقصود الثابت بالبرهان والناتج عن التفكير والفلسفة، وإنما أتكلم عن انفصال طبيعي يعد غريزياً في تقويم الحس والضمير، ويتجلى في الحال بطريقة بريئة للنظر والسمع والتفكير. فإذا كان هذا الانفصال تاماً، وإذا كانت النفس تكف عن الاشتراك في العمل بواسطة حاسة من حواسها، أصبحت تلك النفس نفس فنان لم ير العالم مثلها منذ الأزل. وإنها لتسمو في جميع الفنون معاً، أو بمعنى أصح تصهر جميع الفنون في بوتقة لتخلق منها فناً واحداً؛ وننظر إلى الأشياء في سذاجتها وطُهره الأول. وكذلك تكون الحال في الأشكال والأوان وأصوات العالم المادي وأدق حركات الحياة الداخلية. بيد أننا لو فرضنا ذلك لكنا نحمل الطبيعة فوق طاقتها. ثم إذا نحن دققنا النظر في الذين اختارتهم الطبيعة من بيننا لتجعل منهم فنانين فإننا لا نلبث أن نتأكد من أنها لم تأت ذلك إلا عفواً عن غير عمد، وأنها لم ترفع الوشاح الذي يسترها إلا من جانب واحد، ونسيت أن تقيد الشعور بالحاجة في اتجاه واحد. ولما كان كل اتجاه يقابله ما نسميه حاسة، فان الفنان ينقطع عادة للفن بواسطة إحدى تلك الحواس وبتلك الحاسة فقط. من هنا نشأ تنوع الفنون. ومن هنا أيضاً نشأ تخصص الميول. فمن الناس من يتعلق بالألوان والأشكال؛ ونظراً لأنه يحب الألوان لمجرد الألوان، والأشكال لمجرد الأشكال؛ ويميز كلا منها لذاتها لا لذاته، فان الحياة الداخلية لتلك الأشياء هي التي تتجلى أمام النظارة خلال أشكالها وألوانها فيدخلها رويداً رويداً في إحساسنا المضطرب القلق من تلك المفاجأة. إنه ينزع عنا، ولو لفترة قصيرة، تلك القيود التي تربطنا بأوهام الشكل واللون التي ما فتئت تعترض أعيننا وتحول بينها وبين الحقيقة. وإنه ليستطيع بذلك تحقيق أكبر مطمع للفن وهو - بالنسبة لموضوعنا - إزاحة الستر الذي يخفي الطبيعة عنا. ومنهم من ينطوون على أنفسهم ويقفون جهودهم على البحث عن الشعور وعن حالة النفس على ما هي عليه من سذاجة وطهر، خلال آلاف الأعمال المتولدة التي تعبر عن الشعور، أو من الكلمة التافهة الاجتماعية التي تعبر عن حالة نفسية فردية وتستكملها. وإنهم - لكي