يقف (هارون الرشيد) على رأس القمة التي بلغتها الدولة العباسية، بل التي بلغها تاريخ الإمبراطورية الإسلامية كلها. .، هذا المجد الذي لم يلبث طويلا بعد ذلك، والذي كان خلال عهد المأمون امتدادا للدفعة القوية التي بلغها الملك في عهد الرشيد. وحسبك بالخليفة الذي روى عنه أنه قال للسحابة المارة (أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك)
اختلف المؤرخون حول الرشيد اختلافا شديدا، فذهب بعضهم إلى أنه كان يصلي مائة ركعة كل يوم، وأنه كان يتصدق بمائة ألف درهم، وأنه كان يحج عاما وغزو عاما. وذهب البعض الآخر إلى القول بأن قصره كان صورة صحيحة لقصص (ألف ليلة)، وأنه كان مرحاً طروبا يقيم مجالس الغناء والأنس تنتظمها أكواب الراح، وأنه كان يقضي غالب وقته بين الغناء والموسيقى، والمغنيات والقيان.
على أنه ليس من الغريب أن يجمع الرشيد بين الصورتين المتباعدتين اللتين يجمعهما دلاله الشخصي القوي الحيوية، الدافق الشباب، البالغ الفتوة.
وليس على الرشيد من بأس على ضوء طبعه هذا من أن يعيش هاتين الحياتين معا، ويمتزجهما على نحو من الاعتدال فهما؛ قريبان جدا، يلتقيان دائما، إذا بعدت عنهما مبالغات القصاص وأحاجي الرواة.
وليس على الرشيد من ضير أن يعقد مجالسه فيستمع إلى السمر والغناء والموسيقى. .، ولا يمنعه ذلك من أن يصلي لله مائة ركعة، وان يمضي إلى الحج عاما والغزو عاما.
وكل وقائع حياة الرشيد الصحيحة التي بين أيدينا، تدل على أنه أمضى حياة جادة كل الجد فقد حفلت حياته القصيرة بالغزو والجهاد، فما كان ينتهي من غزاة حتى يفترع أخرى،. .
كذلك كان منذ شبابه الغض إلى اليوم الأخير من حياته.
وأبرز ظاهر حياته أنه رجل حرب وقتال، أشربت روحه بالجهاد وقيادة الجيوش ونضال العدو، وكانت أغلب غزواته في أرض الدولة البيزنطية، فلما ولي الملك نظم الشواتي والصوائف وحرض على إرسالها، ثم خرج بنفسه إلى قتال الروم بعد أن نقضوا المعاهدة،