وقد كان حفيا بمغالبة الخصوم والأعداء، لا يهدأ ولا يستريح إلا لنصر يكسبه من وراء نصر، فلا يلبث أن ينتهي من صراع الأعداء على حدود الدولة البيزنطية حتى يعاود الصراع مع العلويين الذين يظهرون هنا أو هناك محاولين الفتنة أو منازعين على الملك،. . وهو في هذا كله صلب العزيمة، قوي العود، على غاية من البسالة والحيوية. .، وهي صفات لا تجعل صاحبها بحال في صف المنقطعين للهو أو العاكفين على الهوى. .
وفي هذا يقول الشاعر:
ومن يطلب لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وقد بدت هذه النفسية المصارعة الجارفة. . على أوضح صورها وأقواها حين استبان له غدر البرامكة. . فصرعهم في ليلة واحدة، على أسلوب غاية في الجرأة والحسم والبتر، ولم يقبل فيهم شفاعة، حتى شفاعة ظئره التي أرضعته وربته. . وكانت عنده في مقدمة الشافعين المشفعين.
وليس شك في هذا التصرف الجريء بالنسبة للبرامكة. . بعد أن أطلق أيديهم في أمور الملك سبعة عشر عاما، حتى بلغوا مكانا عاليا، واستطار اسمهم، وعلا صيتهم. . وفي الوقت الذي كان يعلم انهم هم الذين أوصلوه إلى الملك ومكنوا له منه، لدليل أكيد على قوة نفسية الرشيد، قوة تزري بما عرف عن جده المنصور. .
وإن ظلت نفس الرشيد تحتفظ بطابعها الخالص من السماحة والرقة واللين والمراح والإشراق.
. . وآية ذلك الذي نذهب إليه في نفسية الرشيد، أنه في رحلته الأخيرة إلى خرا سان، حمل إليه أحد الخوارج، وكان في أشد حالات المرض، وفي سكرات الموت، فأمرهم بقتله أمامه، وظل يملأ نظره من دمه المهدر، وهو مسجى على وشك أن يبلغ الأجل من علته.
وكان الرشيد خلال حياته التي لم تتجاوز الخامسة والأربعين، حامل لواء الحضارة الإسلامية في الشرق - بالإضافة إلى منصبه كخليفة للإمبراطورية -، فقد احتضن الثقافة والفن، وشجع رجال الشعر والموسيقى والغناء. . وأفسح لهم وكنهم من الابتكار والتجديد والإبداع، وعنى بالتأليف، وأعان الفقهاء، وفتح لهم أبواب التحدث والقضاء، وعقد لهم