للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مكافحة الشكلية]

للدكتور محمد مندور

لا عجب أن نرى مشكلة التعليم من بين المشاكل الكبرى التي تشغل الرأي العام، لا في بلادنا فحسب، بل في جميع بلاد العالم، والحرب القائمة عمادها الأول مبادئ العلم ومكتشفات العقول، وهي حرب ميكانيكية قبل كل شيء.

ولقد انتهى الأمر ببلادنا إلى الفطنة لوجوب مكافحة الأمية الأبجدية، وهذا خير نحمد الله من أجله، ولكننا نطمع إلى ما هو أبعد من ذلك. فنود لو كافحنا الأمية العقلية، وما نظن مفكرا يزعم أنك قد أصلحت نفسا أو هذبت خلقا أو سددت إدراكا إذا لقنت الفرد مبادئ القراءة والكتابة، فتلك وسائل لا خير فيها إذا عربت عن غايتها، وغايتها بلا ريب هي محو الأمية العقلية، ومن هنا كانت راحة النفس عندما رأينا الحكومة تقيم مكافحتها للأمية على أساسين: تعليم الأبجدية وما يلحق بها، ثم نشر الثقافة الشعبية بإلقاء الدروس المبسطة في مبادئ العمران والحياة المدنية.

وليس من شك في أن مكافحة الأمية العقلية التي هي هدفنا القومي لن نستطيعها إلا إذا أعددنا لمكافحتها طوائف من المثقفين ثقافة جامعية صحيحة، ولقد اتفق لكاتب هذه السطور أن لاحظ على تلك الثقافة الجامعية اتجاها نحو الشكلية قد لا يكون منه مفر في بلاد أخذت تفتح أعينها على العلوم الغربية، فتود لو تلتهمها متعجلة، ثم تنثرها عن يمين وشمال فجة قبل أن تتمثلها تمثل الهضم، وتلك آفة من الآفات الكبيرة التي لابد من محاربتها أعنف الحرب، لأنها خليقة بأن تنشر في نفوس الشباب غرورا كثيفا يحجبها عن الحقائق العميقة. وأخطر ما تكون تلك الآفة في العلوم المعنوية، ونعني بها العلوم التي تتناول الإنسان وظواهره البشرية كفرد وكعضو في هيئة اجتماعية. وسر الخطورة في هذا المجال يأتينا أيضاً عن الغرب، وإن يكن الغرب نفسه قد أخذ يتخلص من تلك الآفة التي مكنت لها اتجاهات العلوم المادية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.

ذلك أن العلوم المادية في تلك الفترة كانت قد خطت خطوات كبيرة نحو اكتشاف كثير من القوانين العامة التي تسيطر على المادة فتمكن الإنسان من استخدامها حتى شاع في كل العقول أن العلم إن لم يكن اكتشاف قوانين فهو ليس بشيء؛ ونظر الباحثون في الإنسان

<<  <  ج:
ص:  >  >>