فإذا بهم لا يكادون يتبينون لظواهره قوانين، فتطلع طموحهم الساذج إلى أن يصلوا في معارفهم إلى ما وصل إليه علماء المادة، فقالوا إن الإنسان ما هو إلا ظاهرة من الظواهر العامة، وهو لابد خاضع في حياته الفردية وفي حياته الاجتماعية إلى قوانين لا مفر من سلطانها، ومن هنا اتجهت الأبحاث النفسية والاجتماعية تلك الوجهة الشكلية التي نكتب اليوم عن وجوب مكافحتها إذا أردنا أن نقيم مجد هذا الوطن على إرادة أبنائه، إرادة يجب أن ينتهي كل تعليم صحيح إلى تأييد حريتها التامة وقدرتها على كل شيء
ومكافحة الشكلية ليست بالأمر الهين، فقد اتفق لي أن لاحظت التجربة في نفسي حيث لم أستطع أن أفطن إلى ما أدعو إليه اليوم إلا بعد سنين من إقامتي بأوربا. ولعلي أفدت تلك التجربة من كلمات قاسية سمعتها من شيخ فرنسي أضعاف ما أفدت من أساتذتي ومطالعاتي. وليسمح لي القارئ بأن أقص تلك الذكرى الشخصية، فقد يفيد منها مثلما أفدت.
في أول عهد بباريس كنت أتناول الغداء على مائدة سيدة عجوز مع نفر من الشبان والشيوخ الفرنسيين وبعض الأجانب. وكان من بين الفرنسيين رجل جاوز الخمسين يعمل وكيلا للمحافظة؛ وأكبر ظني إنه ينحدر من أسرة كبيرة من الأسر المحافظة؛ وكان رجلا جافا في جسمه وروحه، أنيقا في لفظه وملبسه. ولقد علمت إنه قد ابتلى الحياة وابتلته بهمومها الثقال فتحملها في بطولة، ولقد خرج من نشأته وملابسات حياته بفلسفة قوية تقوم على مبادئ الخلق الصارمة، كما تقوم على الاعتداد بكرامة الإنسان وقدرته على توجيه الحياة وإخضاعها لإرادته. مع هذا الرجل تعلق حديثي أحد الأيام، ورأيته يبسط مبادئ فلسفته التي ذكرتها في حرارة المؤمن فدهشت، وأخبرته بأن مبادئ الأخلاق التي يتحدث عنها إن هي إلا ظواهر اجتماعية تملى على الأفراد دون أن يكون لهم دخل في بنائها، أو فضل في الإيمان بها، كما أخبرته أن إرادة الإنسان الحرة التي يعتز بها، ليست إلا وهما لأن الفرد لا يملك لنفسه شيئا، وإنما هو مسير بغرائز وقوى دفينة، وما إن سمع مني الرجل هذا الهراء، حتى انتفض كالأسد، واستند بمرفقه الأيسر على المائدة ليلتفت إلي محدقا في غضب، غضب الاستعلاء، وسألني من أي بلد أتيت يا بني؟ قلت من مصر. قال وماذا يصنع أبوك بمصر؟ قلت يزرع الأرض. قال إني أوصيك مخلصا أن تعود إلى بلدك لتحرث الأرض مع أبيك، هذا أجدى عليك وعلى وطنك مما تتعلمه أو تظن أنك تتعلمه هنا