(يطالع قارئ ديوان (اللزوميات) لأبي العلاء صوراً شتى من
حياة هذا الرجل، حتى ليختلط على القارئ المتعجل تمييز تلك
الشخصية بميزات وسمات تلازمها ولا تفارقها
غير أن حركة صور تلك الحياة في ذهني تكاد تستقر على مقطع واحد من مقاطع نظري إليه، وهو مقطع صورة لرجل مصلوب!)
كأنما الأقدار قد أطالت صلبه ليترجم عن معاني الألم والتشاؤم والسأم والشك والتبرم، وانتقاد شريعة الاجتماع، والانتفاض على شريعة الحياة نفسها. وكأنه كان رسول هذه المعاني في الأدب العربية، جاء لينذر الناس بنذر من عالم الفناء والتعطيل والظلام والآلام. فهو في آفاق هذا العالم رائد خبير، قطع حياته كلها يجوس بعينيه المطموستين في أمواجه الغامرة لم يبزغ عليه فجر نور يزوده بصور باسمة للحياة يتذكرها ويلهو بذكراها في رحلته القاسية الطويلة، إذ حرمته الأقدار بعض أسباب السلوى والنسيان والتلهي، وضاعف هو حرمان نفسه، إذ رفض بقية ما سلبته الحياة. فكتب على نفسه بيده أسباب نقمته الموصولة، وقد أعانه على إدمان آلامه ذاكرة واعية، وحافظة مصورة، وخيال خلاق مثال، بلغ من قدرته أنه كان يرى في كل لفظ من محصول اللغة التي كان فيها إماما قالبا لمعنى من معانيه، ونواة لفكرة من أفكاره، لا يلبث أن يدور حولها دورة يخرج منها معنى يضم إلى أسرة المعاني العلائية المعروفة
وقد نجح في أداء رسالته، فقبس (أقبساً) داجية من عالم التعطيل والظلام ونقلها إلى عالم الحياة والحركة والافتنان والاستسلام، وأتى من وديانه بصور وتهاويل وأشباح تطالع قارئ ديوانه (اللزوميات) فيقبل عليها في ارتياع ووجل وشوق غامض كما يقبل على عالم الضوء بعرائسه وأشباحه البيضاء الآنسة المأنوسة! فيبصر ذلك الجانب الآخر من حياة قانونها المزاوجة بين المسرات والآلام، وينبه السكارى باللذة إلى ما هنالك من السكر