اجتاز الترام الميادين والشوارع، وأخذ ينساب بين الحقول في الطريق إلى الأهرام؛ وكان القمر قد نفض الغيوم عن وجهه، وبدا سافرا يضحك للحقول، ويحنو على النباتات المرتجفة في نسيم الليل، ويناغي الأغصان المشرئبة اليه من أعالي الأشجار، فانبسطت أسارير (المعلم لوقا) سائق المركبة، وفارق العبوس وجهه الهزيل اليابس، وأخرج علبة سعوطه وأدناها من أنفه، ييلتمس الصحو والانتعاش.
لم يكن الرجل في حال حسنة، لأن الليلة باردة قارسة البرد، وهو مسن، ليس في هيكل من اللحم ما يقي عظامه المقرورة، ولو كان معافى لما شكى، لكنه مريض، مبهور الأنفاس من السعال، معصوب الرأس، يحرك عينيه بعناء كأن السعال قد شدهما في محجريهما بخيوط قوية. . . ما كان أحوجه أن يأوى الى فراشه! لكنه آثر أن يشتغل الليلة، ليظفر بيوم راحته في الغد، لأن الغد (عيد الميلاد) وهو يريد أن يبقى في البيت مع زوجته (كتُّورة) وابنته (ياسمينة) يستقبل المهنئين بعودة الأيام، والمتمنين أن يمضي الحول، فاذا بياسمينة أم لطفل جميل.
وإذ ذكر (عم لوقا) فناته ابتسم، ونظر في ساعته يتعجل ميعاد العودة، ثم أرسل بصره في الطريق أمامه، وابتدأ يغرق في تأملاته: كم له من السنين وهو يقف هذه الوقفة؟!. . إنه الآن شيخ! كان فتى عندما ارتدى سترة (المصلحة) للمرة الاولى. كان وجهه ناضراً، وشاربه أسود مفتولا! وكان له حاجبان جميلاً! وكان شعره مرتباً معطراً!. . أما الآن فقد صار يابس الوجه! ظهر الشيب في حاجبيه، وعبثت بجمالهما الأيام! ولم تعد رأسه معطرة مزينة، بل استغنت عن المطر بأرد الصابون؛ ولم يعد للمشط معها شأن، لأن شعرها قد انتحل، ولم تذر الأيام منه غير بقايا مبعثرة متباعدة. . . وندت عن صدره آهة طويلة وهو يغمغهم:(ما أعجب أمر الحياة!!).
واكتابت نفس (لوقا) واشتد عليه صداعه، واستيقظ سعاله، فاضطربت الصور في مخيلته، وانهدت قواه، ولم يعد يملك كل وعيه، وصار يستقبل بذهول هذه الأصوات المنصبة في