للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - محمد حافظ إبراهيم]

بمناسبة ذكراه الثالثة

كان حافظ في ميعة شبابه يطلب الثروة على قدر طموحه، والحظوة على قدر نبوغه؛ ولكنه طلبهما من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، لا من طريق الواجب الذي يؤديه كل إنسان إلى المجتمع. فلما أخفق بالطبع لم يرد أن يعيش كما يعيش سائر الناس على العمل الميسور، وإنما ارتد ارتداد الأنوف المحتج إلى الفلاكة الشاعرة الصابرة، يحمل بؤسه على (حرفة الأدب) كما يحمل المؤمن رزءه على حكمة القدر؛ ثم عاش عيش الطائر الغرد: عمره ساعته، ودنياه روضته، وشريعته طبيعته، ودأبه أن يطير في الغيم والصحو، ويشدو في الطرب والشجو، ثم يسقط على الحب أينما انتثر!

ولقد كان من جريرة هذه الحياة النابية العقيم التي حيها حافظ أن قتلت فيه الطموح فلم ينشط إلى سعي، وأذهلته عن الغاية فلم يسر على مبدأ، ووقفته على الشاطئ فلم يتعمق في فلسفة، وشغلته عن الدرس فلم يتكمل بثقافة. كان مبدؤه الأدبي مبدأ اليوم، كما كانت حياته المادية حياة الساعة: رأى الآمال تتهافت حيناً من الدهر على أريكة الخديويه في مصر، وعرش الخلافه في الآستانة، فجرى لسانه بالشعر المطبوع في مدح عباس وتمجيد عبد الحميد؛ ثم اتصل بالإمام وشيعته من سراة البلاد وشيوخ الأمة، ولهم يومئذ في الإنجليز رجاء موصول وظن حسن، فصدرت عنه في هذه الفترة قصيدة في رثاء الملكة فكتوريا، وقصيدة في تتويج الملك أدوار السابع، وقصيدتان في وداع اللورد كرومر، عبر بهما عن الرأي السياسي الأرستقراطي في ذلك الحين؛ ثم خلص للشعب فلابس دهماءه وخالط زعماءه، واندفع بقوة الوطنية الدافقة الشابة إلى لواء مصطفى، فمزج شكواه بشكوى البلاد، وضرب على أوتار القلوب أناشيد الجهاد، ونظم أماني الشباب من حبات قلبه، وترجم أحاديث النفوس ببيان شعره؛ ثم عطف عليه الوزير الأديب حشمت باشا فأكرمه بالعمل في (دار الكتب)، وأجزل له المرتب طمعاُ في مواهبه، وثواباُ على فضله؛ ولكن الشاعر حمل الوظيفة على باب المكافأة المفروضة فاستراح للخفض، واستنام للدعة، وفتر عن قول الشعر إلا مدفوعاُ إليه من فترة إلى فترة؛ فلما خرج على (المعاش) انضوى إلى أعلام (الوفد)، واتصل بالزعيم اتصال النديم، وحاول أن يبعث في نفسه الشعر الوطني، ولكنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>