سجا الليل وغشى المدينة ظلام دامس، وكنت قد اخترت لليلتي كتباً أخلو إليها كما يختار الأصدقاء، قليلة العدد كثيرة الوفاء ولكنني برمت بها وبمجلسي، فطويت أجنحتها وعمدت إلى المصباح فأغمضت عينيه، واندفعت إلى شرفة بمنزلي ففتحت بابها وخلوت إلى السماء؛ فإذا القمر يطل منها على الأرض، ويسكب عليها فيضاً سخياً من ضوئه الوهاج. ولا يستطيع أولو الأمر في الحرب أن يرقوا إليه فيسدلوا عليه حجاباً أو ينذروه عقاباً وقلت في نفسي ما يقوله الناس في هذه الأيام: وا حسرتاه! كنا نجد في ضوء القمر لذة ومتاعاً حين كان السلم يبسط رواقه على العالمين، واليوم نوجس منه خيفة وارتياعاً، حين اتخذت الطائرات ضوءه سلماً تهبط به على الآمنين. وما كادت الحرب تخطر ببالي حتى دفعتها عنها دفعاً. وأرسلت البصر إلى السماء، فرأيت سحابة باسطة الذراعين تجرر أذيالها تسعى إلى القمر في تؤده ووناء؛ ثم تبسط يدها على وجهه فيخبو ضوءه قليلاً؛ ثم تنداح فتحجب أكثر هذا الضوء؛ ثم تنحاب عنه فإذا هو خارج من غمرته منبسط الأسارير كما عهدته وإذا السحابة تخلفه وراءها وتمضى وهو باسم بسمة الحليم حين يمتحن في حلمه وهي مطمئنة اطمئنان القوى حين يفوز بخصمه
سبحانك اللهم! وغفرانك! حسبنا أنا حرمنا نعمة الضياء بهذه الحرب فبسطت لنا في سمائك كتاباً فيه سطور من نور. وحسبنا أننا قطعنا الأسباب على كل مبعث للضياء بما أسدلنا من سجف وأستار وإذا ضياء سمائك لا يحجبه حاجب ولا يمنعه ستار!
ترى هل أستطيع أن أقرأ في هذا الكتاب المبسوط في السماء؟ هل من سبيل إلى فهم بيان السماء؟ هل أفوز من القمر والحساب والسماء والنجوم بحديث اطلع به على الناس مغتبطاً كما يزهو الصحفي حين يفوز بحديث زعيم أو عظيم مع ما بين الحديثين من تفاوت؟
ودار بخاطري أننا أنشأنا مدارس لتعليم اللغات الحية وعكفنا على دراستها حتى قتلناها وأنشأنا معاهد لتعليم اللغات الميتة، وعكفنا على ذكرها حتى أحييناه واحتدم بيننا الجدل فيما نفعل حتى اختلط الشك باليقين، وانتصر قوم لزكي مبارك وتشيع قوم لأحمد أمين، وما في ثبت تلك المدارس والمعاهد مدرسة لتعليم لغة الطبيعة ولا (حصة) لدراسة لسان لا سماء