لست ابغي ان امحي الفروق العديدة التي تميز فكر الفيلسوف من فكر الجمهور، إنما أريد التقريب وعقد الصلات بينهما، وبيان ان الهوة المزعومة بينهما لا وجود لها. ذلك ان المذاهب الفلسفية استمرار طبيعي لفلسفة صامتة، تتسلسل في آلاف الأذهان خفية كما تتسلسل النار الكامنة، حتى تشتعل وتومض وميضاً يبهر الأبصار بعد ان تكون مرت بدور كمون طويل. فما من مذب جديد إلا وله دور وسوابق وممهدات في مذاهب السابقين، وهذه بدورها سبقتها نضرات ولمحات صامتة تبدو في حكم العامة وأساطيرهم وشعر الشعراء وقصص الأدباء. ولكن هؤلاء جميعاً بدت النظرات الفلسفية في إنتاجهم دون قصد أو وعي بها ومن اجل هذا اسميها فلسفة صامتة. إنما الفلسفة الناطقة هي التي تعبر عنها المذاهب الفلسفية التي صاغها أصحابها على وعي منهم بها، والتي تبدو جديدة مبتكرة. وما هي - لو تأملناها أحطنا بملابساتها - غير تأليف وتفيق جديد بين عناصر قديمة مرت بالعقل البشري من قبل وبوسعنا الاهتداء أليها في مذاهب السابقين بل مثبتة في ثنايا الشعر والحكمة الشعبية القديمة قدم الإنسان ذاته،
إليك مثلاً أفلاطون وهو صاحب أول مذهب متكامل شامل في تاريخ الفلسفة، يبدو مذهبه عملا ابتكارياً صرفاً، ولمن الحقيقة التي يكشف عنها تاريخ الفلسفة ان بعض النتائج التي وصل إليها غيره من المفكرين السابقين عليه، قد دخلت في تكوين هيكل فلسفته: نظرية هرقليطس في التغير المستمر، وفكرة فيثاغورس في العدد والموسيقى، ورأي بارمنيدس في الوجود ثم فلسفة سقراط أستاذه الحبيب، هذه جميعها امتصها أفلاطون وتمثلها حتى استحالت إلى كيانه الفكري كما تستحيل الأغذية إلى كياننا الجسمي. ليس هذا فحسب بل نستطيع لو ثابرنا ان نجد في الفكر القديم عند الهنود والمصريين أفكارا تتصل بسبب قريب بأفكار منبثة من مذاهب أفلاطون.
يقول الأستاذ إسماعيل مظهر:
(ان مبادئ أفلاطون الأساسية وفكراته الجوهرية التي قام عليها مذهبه، تدفع بنا إلى