الرجوع سعياً، لا إلى أسلافه الأقربين ولا إلى معلمه العميق الغور سقراط، الذي عاش في صفحات ما كتب أفلاطون، ولكن إلى مدارس سبقته فأكبت على التأمل الفكري في إغريقية وايونانا وإيطاليا. ومن قبل هؤلاء قد نرجع إلى عصر العر، ذلك العصر الذي ترى فيه بدايات الفلسفة تكاد تبدو في ضباب الزمن، وهي لا تكاد تعرف حتى من قيمة ذاتها شيئاً. ثم مد بصرك إلى ابعد من هذه الفلسفة غير الواعية الحقيقية ما هي، وانغمر في ضمير الزمان إلى تلك البدايات التي تمثلت في الميول العقلية الخلجات النفسية وترامي قوى الفكر إلى حجب العالم، تجد ان هذه الأشياء قد شهدت ميلاد فكرات أفلاطون بنسب، منحدرة إليه من مدنيات عتيقة موغلة في القدم من الهند ومصر، وتجد فوق ذلك ان هذه الفكرات لا تزال حتى اليوم تؤثر أثرها المحتوم في عالم التأمل)
وليس هذا غريباً إذا علمنا ان الطريق إلى التعليمات الفلسفية ليس عقل الفيلسوف وحده فهنالك لدى العامة حدس صادق، أو حس سليم هو طريق آخر يفضي إلى نظرات عامة في الكون والأخلاق فيها من الصدق والصفاء ما يجعل لها قيمة تداني قيمة مذاهب الفلاسفة والخلاصة ان المذاهبالفلسفية يقابلها فلسفة واقعية صامتة أو هي - كما قال الأستاذ إسماعيل مظهر:(لاتعي ذاتها).
عقد الأستاذ (البير بأبيه) في كتابه (أخلاق العلم) فصلاً يبين فيه النظريات الفلسفية الأخلاقية، سبقتها أخلاق واقعية، وإنها مجرد تركيز أو تبلور لتصورات الناس الواقعية لمثل أعلى. بل ويفضل الأخلاق الواقعية على النظريات الفلسفية لان اثر الأخير في المجتمع اثر يكاد ينعدم.
يقول الأستاذ بابيه بهذا الصدد:
(أتنظر في اكبر تحول عرفته المجتمعات البشرية: وهو إلغاء الرق. ولو سئلنا اليوم في القرن العشرين باسم أي مذهب نستنكر الرق؟ استطعنا ان نجيب جواباً لا يخلو من منطق: ان ذلك باسم فلسفة القرن الثامن عشر التي أعلنت حقوق الإنسان ولكنا نعلم حق العلم ان تلك النظرية لم تحرر إلا بعد حين، أي بعد ان كانت المهمة قد تمت، وبعد ان كان الرق كله قد اختفى أو كاد ان يختفي من مجتمعاتنا، ولكن نبحث في التاريخ عن المبادئ التي أدت إلى إلغاء الرق: يحيل بعض المفكرين إلى الأخلاق الرواقية، ولكن الرواقيين كان لهم