للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من وحي الصوم:]

هيام المتصوفين

للشيخ محمد رجب البيومي

(إلى أخي الأستاذ محمود فهمي البيومي، وصديقي الروحاني الأستاذ عبد اللطيف عيسى)

الحب! معنى ثائر عاصف، شعر به كل إنسان تتأجج في صدره لوعة، وتشتجر في جوانحه عاطفة، وهو على تباين أنواعه وتعدد ألوانه، مؤرق مفزع، يطوي بساط الأنس والدعة، ويغرس أشواك الضجر والتبرم. وسل الوالد أي حنين مشبوب يمزق أحشاءه حين يتشوف إلى نجله النازح راجياً آملاً. وسل الصديق أية لهفة حارة تضطرم في إحساسه حين يتطلع إلى أنباء صديقه الغائب، ويتلمس أسباب الحديث عنه في لذة وشغف. وسل الصب العاشق كم يذرف من الدموع الملتهبة إذا وقفت الحوائل في وجهه، وقامت السدود دون مبتغاه. بل وسل العارف بربه كم قاسى من المصاعب وتكبد من المشاق حتى رفرفت روحه في أجواء الملائكة، فنعمت بلذتها الكبرى، وظفرت بسعادتها الباقية؟

والحب الإلهي أسمى أنواع المحبة وأقدسها، وأن كان يكلف صاحبه من دمه وروحه ما تقشعر له الأبدان، فيقضي سحابة يومه وسواد ليله، شارد العقل، مبلبل الخاطر، يخاطبه الناس فلا يسمع، ويستعطفه ذووه فلا يجيب، فهو - في نظرهم - حاضر كغائب، وحي كميت، وما يزال يذيب نفسه ويعذب أحاسيسه حتى يصير شبحاً هائماً يرى في الوهم ولا يكاد يصدقه العيان. وهكذا الروح إذا قوى اتصالها، وشع ضياؤها، تمرست بالجسد الضيق فأنحلته وأسقمته، وهذا كله قليل غير كثير في جانب ما يبتغي العارف من لذة الوصل، ونعيم المشاهدة، ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر. . .

وليس التصوف حدثاً طارئاً في الشريعة الإسلامية، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم من كبار المتصوفين، وكانوا من النقاء والصفاء في درجة سامية. ثم خلف من بعدهم خلف لزموا نهجهم السوي وساروا في طريقهم العلوي، وإذن فقد كان التصوف بمعناه الفطري من صفات المسلم الأول يقبل عليه في ارتياح، وينجذب إليه في حنين، حتى تبدلت الحال وأنغمس المسلمون شيئاً فشيئاً في ما جلبته الحضارة من الترف والنعيم، وهنا بدأ التصوف يظهر بصورة جديدة، فقد أغضب هذا المصير قوماً عرفوا الله حق معرفته فاعتزلوا الناس،

<<  <  ج:
ص:  >  >>