للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولاذوا بقمم الجبال ومطارح الفلوات، نائمين عما يغمر الحضريين من لذة ومتاع، وفي هذه الخلوات الهادئة هبطت عليهم أشعة السماء، فغمرت أرواحهم بالنور، ومدت اجتحتهم بالقوة، فحلقوا كالنسور في آفاق رحيبة، ورزقوا عيوناً بصيرة نافذة، وترى ما لا يراه الناظرون.

والشريعة الإسلامية لا تنكر الاتصال السماوي، بل إنها تذهب إلى تأييد بما تذكره عن كرامة الولي وحرمه العارف، وقد أسهب أئمة الإسلام في الدفاع عن المتصوفين، مستدلين بفيض زاخر من الآيات والأحاديث، وممن برزوا في هذا الميدان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وقد نصصت عليه بذاته لأني أرتاح كثيراً إلى منطقه الواضح، فهو لا يتمسك بالأدلة الظنية، ولا يلتفت إلى الموضوع من الأحاديث والأساطير وجاء ابن خلدون فأيد القوم تأييداً لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، فقد سلم لهم جميع ما يدعونه من كشف واتصال، وخوارق وكرامات. وإليك ما ذكره في مقدمته، قال: (ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب ذلك الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعف أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحس فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية، والعلوم اللدنية، وتقرب ذاته من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الروح ما لا يدرك سواهم، ويتصرفون بهمتهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم، والعظماء منهم لا يعتبون هذا الكشف ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يأمروا بالتكلم فيه).

وما دامت الروح قد اتصلت بالله هذا الاتصال، فلا عجب إذا هامت في حبه، ونسيت العالم الأرضي بما يدرج فيه من إنسان وحيوان، بل إن من القليل عليها أن تهيم هياماً متصلاً في سلوكها الروحي، فقد قطفت الثمرة الحلوة، ومنحت الوسام الرفيع.

والحب الإلهي كالحب الإنسي، منطقته القلب، ونافذته الإحساس، فإذا قويت دواعيه، واشتدت دوافعه، فإنه يسيطر على الجسم سيطرة تامة، فتتحول الأعضاء جميعها إلى ألسنة ناطقة بذكر الحبيب، فهي من شغلها الشاغل في هيام متصل وسكر دائم، وأنت تنظر -

<<  <  ج:
ص:  >  >>