مثلاً - إلى عاشق الفتاة، فتجده شارد اللب، نحيل الجسم، ممتقع اللون، فلا تستكثر أن ترى عاشق الذات العلوية تصفاً بهذه الصفات، بل إن المنطق يقضي أن يكون أكثر نحولاً، وأشد ذهولاً، حيث كان ذا مقصود أعظم، وأمل جامح طموح.
ولا يسعنا وقد تعرضنا لهذه الناحية أن نذكر أن الحب الإلهي يكون في غالب أمره تطوراً لحب إنساني، فكثير من العارفين قد ذاق في مقتبل شبابه مرارة الحب الأرضي، وعانى ما يعانيه العاشق من منع وحرمان، وهو بذلك قد مرن على السهر والنواح، فإذا ما هطل الفيض السماوي على روحه، بعد وقت قريب أو بعيد، كان على استعداد تام للسير في طريقه المملوء بالعرق والدموع، حتى ينتهي منه السلام.
يذكر الكاتبون أن تصوف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي كان خاتمة لرحلة لذيذة قام بها في عالم الصبوات الحسية، فقد شاهد في مكة فتاة فارسية ذات عقل راجح، وذكاء متوقد، ثم هي على جانب فائق من الحسن، فطارحها الأحاديث، وتساقيل كؤوس الجدل العلمي، وما يزال يحن إلى سمرها الشهي، حتى سرقت قلبه، وملكت زمام مشاعره، فساق بها إلى القصائد الرائعة ولم يشأ أن يخفي أمره معها بعد تصوفه، بل كتب عنها فصلاً ممتعاً جاء فيه:(وهي طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، أن أسهبت أتعبت، وأن أوجزت أعجزت، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، أشرقت بها تهامه، وفتح الروض لمحاورتها أكمامه). . .
والذي يقرأ مقطوعات ابن عربي يلمس إخلاصه في حبه، ويحمد له أن تعلق بذات علم وفضل، فوقع الطير على شكله، وانجذب الشبيه إلى شبيهه، والعجيب الغريب أن الشيخ الأكبر قد حاول أن يشرح قصائده في صاحبته شرحاً لا يتفق مع ما صرح به فيما سبق أن نقلناه عنه، فهو يحول أبياته إلى ميدان آخر غير ميدانها الأصيل، مع أن القارئ العادي لا يمكن أن يطمئن إلى شرحه الملفق، فما ظنك بمن يتعقبونه من أذكياء الناقدين، وإذا كان ابن عربي قد أعلن غرامه الإنساني في نثره، فلم يلجأ ثانية إلى اللف والدوران في شعره الجميل؟!
هذا قول يحتاج إلى دليل ملموس، فليسمع القراء أولاً هذه الأبيات: