للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[للأدب والتاريخ:]

مصطفى صادق الرافعي

١٨٨٠ - ١٩٣٧

للأستاذ محمد سعيد العريان

- ٩ -

(قطعتني زحمة العمل أسبوعين عن مواصلة الكتابة وقامت بيني وبين الواجب؛ ثم ألح عليّ المرض أسبوعين يغدو ويروح بين الليل والنهار، فلا أهم أن اشرع القلم لأستأنف حديثي حتى يقطعني الإعياء ويقعد بي العجز. فما كان من صمتي في الأسابيع الأربعة الماضية فهو من ذاك، ولعله عذر يبلغ بي عند الأصدقاء الذين ظنوا بي ما ظنوا لهذا الصمت الطويل فأوسعوني في رسائلهم عتباً وملامة، فكان عتابهم آية من آيات الود الصافي وحسن الإخاء)

الرافعي في سنوات الحرب

كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة: يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه؛ وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيراً من المآسي الفاجعة يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فما يقرؤها إذ يقرؤها كلاماً مكتوباً، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.

ولقد وقعت الحرب واستعرت نارها في الميادين البعيدة لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديداً من ضحاياها هناك في الميدان. . . كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعى النجار لعمل عندنا فوجدته جالساً في أهله يأكلون: كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز أدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم كأنما يخشى

<<  <  ج:
ص:  >  >>