كان العرب في الجاهلية على حيرة من أمرهم: أديان شتى، وقبائل شتى؛ لا نظام لهم يجتمعون عليه، ولا حكومة موحدة يرجعون إليها، ويقفون عد الحدود التي ترسمها، والقوانين التي تضعها فتكون موضع التنفيذ. والصحراء التي يضطربون فيها فتغتالهم حينا وتبسط عليهم جناح الأمن حيناً، وكذلك حال الفزع التي كانت تصاحبهم من أشباح الحرب والغارات التي تصبحهم وتمسيهم، وتفاجئهم في ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكذلك حالتهم المعيشية التي تصيبهم بالبؤس المدقع والجوع القاتل أحياناً لاضطراب الحياة الاقتصادية. وكثرة حوادث القتل والاغتيال التي يتعذر عليهم إصدار حكم فيها. كل أولئك جعلهم في حيرة من أمرهم، وألقى عليهم ظلا ممتداً قاتماً من التردد والحيرة، والشك والاضطراب. فكان لا بد لهم مما يذهب عنهم هذه الحيرة القاتلة، فلجئوا إلى وسائل شتى ظنوها تجلب إليهم شيئا من الروح والطمأنينة وإن صارت عليهم حربا فيما بعد ذلك. لجئوا إلى التفاؤل والطيرة فحكموا الطير والحيوان في أمورهم، أيقدمون أم يحجمون. وتفاءلوا بالأصوات والكلمات يلتمسون فيها المعنى الذي يبسطهم فيمضون فيما هم بسبيله، والمعنى الذي يقبضهم فيرتدون إلى حيث الأمن والسلامة.
قال الجاحظ: ويدل على أنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون قول سوار بن المضرب:
تغنى الطائران ببين ليلى ... على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغراب اغتراب غير داني
فاشتق كما ترى الاغتراب من (الغرب) والبينونة من (البان) وقال جران العود:
جرى يوم رحنا بالجمال نزفها ... عقاب وشحاج من البين يبرح
فأما العقاب فهي منها عقوبة ... وأما الغراب فالغريب المطوح
فلم يجد في العقاب إلا العقوبة، ووجد في الغراب معنى الغربة واستخبروا الجماد، فكانوا يضربون بالحصى ليحكم بينهم في امرهم، يطيعون حكمه وهو الجماد الذي لا يسمع ولا