بعد الجهل والفقر لابد أن يجيء المرض. فهو في الترتيب الطبيعي ثالث العناوين البارزة في دستور وزارة الشؤون الاجتماعية.
وإذا كان الجهل يمنع أن يكون لنا رأي عام، والفقر يمنع أن يكون لنا خير مشترك، فإن المرض يمنع أن يكون لنا كيان صحيح. وإذا لم يكن للمجتمع رأي عام ولا خير مشترك ولا كيان صحيح، فسمه ما شئت إلا أن تسميه أمة.
ولعل المرض كان العَرض الملازم الذي يميز الشقاء المصري من كل شقاء في العالم. وإن أثره في تاريخنا الاجتماعي كان كأثر الزلازل والبراكين والحروب في تاريخ البلاد الأُخر. فقد كانت الأوبئة تفد إلى مصر عاماً بعد عام فتجتاح نصف السكان وتصيب النصف الآخر بعاهات تدعه كالشجر اليابس لا للظل ولا للثمر. والعلة الأصيلة في ذلك أن أبانا النيل منذ شقه الله يجري فيكون الخصب والغضارة والحياة، ثم يركد فيكون الجدب والذبول والموت. وفيضانه ونقصانه يتعاقبان تعاقب الجديدين. فإذا فاض أنعش الذاوي وجدد البالي وأحيا الموات؛ وإذا نقص تخلفت بقاياه في أجواف المصارف وأطراف الترع ومناقع الأرض فتكون مزارعَ خصبة لجراثيم التيفود وبعوض الملاريا وقواقع البلهارسيا وديدان الأنكلستوما، وبنو النيل الدائبون البررة لا ترتفع أيديهم من مائه، في حالي نقصه ووفاءه؛ فخيرهم منه لا يزال مشوباً بالشر، ووجودهم فيه لا ينفك مهدداً بالعدم. فإذا أضفت إلى ذلك أن الجهل يستوجب فساد العيش وترك الوقاية، وأن الفقر يستلزم سوء الغذاء ونقص العلاج، فقد اجتمعت لك أسباب المرض التي جعلت الكثرة الكاثرة منا مذبذبين بين الدور والقبور لا هم في الأحياء ولا هم في الموتى.
إذا استطعت أن تقيم البناء من ناخر الحجر، وتنسج الرداء من رثيث الخيط، استطعت أن تؤلف من مهازيل المرض وسُقَاط الوهن شعباً يستغل الأرض وجيشاً يحمي الوطن.
تعال نزر قرية من قرى الريف فأريك كومة مبسوطة من سباخ الأرض، في مستنقع واسع من آسن الماء، فقد قامت عليها أبنية من الطين والقصب والخشب تجمعت على ظهورها