(١) كان الفقه الإسلامي في نموه، وانشعاب فروعه من أصوله، أشبه شيء بالدوحة العظيمة أنشبت في الأرض جذورها ثم تطاولت إلى السماء بهيكلها، وأرسلت أفنانها مكتسيات بالورق النضر في كل متجه فلم تدع تحتها مكاناً ضاحياً أو موضعاً غير ظليل
وفي العصر العباسي وما تلاه من عصور التدوين والتصنيف توسع الفقهاء في دراسة الفروع توسعاً لم يتركوا معه شاردة ولا واردة إلا أثبتوها؛ وراحوا يفتنون في افتراض مواطن الشبه، ثم الإفتاء فيها بما يزيل لبسها، افتناناً ولجوا به باباً من التكلف والصنعة لم يحمد الكثيرون لهم مغبته لما قد صرفهم إليه من الحفول بالتوافه واستنفاذ قوى التفكير فيما لا تعظم جدواه أو ينفع كثيراً علمه
وقد أشرنا فيما قبل إلى ذيوع ما أسموه فتيا فقيه العرب؛ ونذكر هنا أن جلة العلماء ورؤساء المذاهب منذ القرن الثاني لم يسلموا في مجالسهم وحلقات دروسهم ممن يتعرض لهم بأسئلة يرمي بها إلى تعجيزهم، ويذهب فيها مذهب التعمية والإلغاز على نهج فتاوى فقيه العرب
ولم يكن بد لهؤلاء الأئمة من أن يجيبوا وإن صرفهم ذلك لحظة أو لحظات عما هم بسبيله من البحث المجدي والتحقيق المفيد
قال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي - المتوفى سنة ٦٠٦هـ - في كتابه مناقب الإمام الشافعي: اعلم أنه نقل أن الشافعي سألوه في بعض المسائل بألفاظ غريبة، فأجاب عنها في الحال بألفاظ عربية ونحن نذكر بعضها. أحدها: قيل له: كم قرء أم فلاح؟ فأجاب على البديهة: من ابن ذكاء إلى أم شملة. والمراد بالقرء الوقت، وأم فلاح الفجر وهو كنية الصلاة. والسؤال واقع عن مدة وقت صلاة الفجر؛ وقول الشافعي رضي الله عنه من ابن ذكاء أي من وقت الصبح وهو كنيته، إلى أم شملة وهي كنية الشمس أي إلى طلوع الشمس. . . وسئل: هل تسمع شهادة الخالق؟ قال: لا ولا روايته. والخالق الكاذب قال تعالى:(إن هذا خلق الأولين) وأورد الفخر الرازي أمثلة أخرى، ثم ختم بقوله: فلنكتف بهذا القدر، إذ لا يمدح الشافعي بمثله!