وفي سنة ١٨٧٤ كتب نيتشه في مذكراته (إن ديني - إن كان لي بشيء يصح تسميته بذلك - لا يتعدى العمل لمنتجات العبقرية. أما الفن فهو التربية التي تحقق ما نأمله في الحياة وبذلك تهون علينا الحياة بما فيها من ألم.) وذكر نيتشه في نهاية الجزء الرابع من كتابه (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) في فصل (عن روح الفنان والأديب) كلاماً بلهجة اليائس، إذ أعتبر الفن في تدهور وانحلال - ولعله كان يتحدث في ذلك عن نفسه بالذات. فقد حمل نيتشه على الفنانين الذين يحجمون عن النظر إلى المثل العليا، ويكتفون بالنظر إلى أعمالهم فقط. ولهذا أنقلب على الفنانين وراح يمجد العلماء الذين يعملون للفكر، فكل عالم أصبح في نظره (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد). وهكذا بدأ يشيد بسقراط الذي كان قد نعته من قبل (بقاتل التراجيديا) وأتخذه مثلاً أعلى له.
وعد نيتشه بعد كتابه الأخير من الحكماء البلغاء القابضين على ناصية المنطق والخيال والقول الحكيم. وكان في جده صارماً وفي لذعه قارصاً وفي مزحه ظريفاً. وهو إذا ما غضب بلغ حد الغضب، وإذا ما عمد إلى اللعب نسي نفسه، وإذا ما رقص تفانى في الرقص، وكان الرقص أحب الأشياء إلى نفسه. وكان نيتشه يرى في نفسه رأس حكماء الألمان ويعتقد بأن أسلوبه هو الأسلوب الخالد، إذ في وسعه أن يكتب في عشرة جمل ما لا يكتبه غيره في كتاب كامل. وكان قد قرأ من الألمان ليشتنبرج (هينه) ومن الفرنسيين مونتاني وفونتنل وشامفور وغيرهم. وكان يجد للفرنسيين آراء صادقة لم تجتمع في كافة كتب الفلاسفة الألمان.
وتخطى نيتشه في سنة ١٨٨١ تلك الأزمة التي عاجلته بعد كتاب (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) وكتاب (آراء وحكم مختلفة) وكتاب (الهائم وظله) وأحس بأنه قد أسترد قواه الجسمانية والروحية بعد أن جال في التيرول وفي جبال الألب وفي شمال إيطاليا.