وقد كان هناك من لا يعذر الكميت في مدحه بني مروان بعد بني هاشم، ويصفه في ذلك بالتردد والرياء والنفاق، وكأنه لا يرى في هذه التقية التي يأخذ بها جمهور الشيعة ما يبرر العذر، ويمنع من توجيه اللوم
وإني لا أنكر أن التقية تدل على شيء من ضعف النفس، وأن التاريخ يذكر بالإعجاب والتقدير تلك المواقف الباهرة التي لم يأخذ أصحابها بالتقية، وآثروا تضحية النفس على الإذعان للخصم، ولكني أرى من الضعف ما قد يكون أجدى من القوة، ولهذا مدحت الحيلة كما مدحت الشجاعة، ومدحت المداراة كما مدحت الصراحة، وقد يكون في المداراة رجولة حرة كريمة جديرة بالعطف والرحمة، بعيدة من اللوم والمؤاخذة، وقد رثى المتنبي لمثل هذه المداراة في قوله:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى ... عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ
فيا نكد الدنيا متى أنت مُقصرٌ ... عن الحر حتى لا يكون له ضدُّ
يروحُ ويغدو كارهاً لوصاله ... وتضطرُّهُ الأيام والزمن النكدُ
وكان أبو مسلم الخراساني ممن يأخذ الكميت بهذا الإذعان لبني مروان، وقد دخل عليه المستهل بن الكميت يوماً فقال له: أبوك الذي كفر بعد إسلامه! فقال: كيف وهو الذي يقول:
بِخاتَمِكم كرهاً تجوزُ أمورهمْ ... فلم أَرَ غَصباً مثله حين يُغصبُ
فأطرق أبو مسلم مستحيياً منه
وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن المستهل بن الكميت دخل على عبد الصمد بن علي فقال له: من أنت؟ فأخبره، فقال له: لا حياك الله ولا حيا أباك، هو الذي يقول:
فالآن صِرْتُ إلى أُميّ ... ة والأمور إلى المصاير
قال: فأطرقت استحياء مما قال، وعرفت البيت، قال ثم قال لي: ارفع رأسك يا بني، فلئن