في أحد السجون التركية يعيش الآن ناظم حكمت أكبر شعراء الترك في العصر الحديث وقد انقطع عن دنيا الناس منذ عشر سنين ولا يزال يرسل خواطره وأحاسيسه إلى العالم المفكر كأنه يقول لهؤلاء الذين قيدوه ولحدوه أن الفكر الحر لا يحصره مكان ولا يعقله قيد.
ولد ناظم حكمت في أوائل هذا القرن في مهد مترف من مهود الأسر التركية الأرستقراطية. ولما أتم دراسته العامة أدخل المدرسة التجهيزية البحرية، فقضى فيها ردحاً من الزمن ثم فر منها عام ١٩١٨ ليقصر وقته وجهده على بعث الشعر التركي من جموده، وتحرير الشعب التركي من قيدوه، فدخل جامعة موسكو ليضيف إلى ثقافته الفرنسية التي شب عليها، الثقافة السلافية التي صبا إليها. ولكن الثقافات الأجنبية لم تشغله عن ثقافته التركية، فأحيا في شعره ما مات من الأساطير التركية والأغاني الشعبية، ووصل بين قديم الشعر وحديثه دون أن يجعل باله لما نظم الشعراء الانتقاليون بين هذا العصر وذلك. فهو في الشعر التركي بمثابة مياكوفيكسي ولوركا في الشعر الروسي، وهو في ذيوع الاسم وسمو المكانة بمنزلة يحيى كما أمير الشعر القديم، فلا غرو إذا جعلوه خليفته في إمارة الشعر الحديث.
وناظم حكمت يعشق الحرية ويركب في سبيلها الأهوال، لذلك لم يغض الكماليون طويلاً عن آرائه (الهدامة)، فاتجهوا بالنظر السياسي إليه، وفتشوا داره فيما فتشوا من دور الضباط التلاميذ في الجيش والبحرية، فعثروا على طائفة من قصائده تبرر اتهامه بالتحريض على قلب نظام الحكم الحاضر وإفساد الشباب، فقدموه إلى المحاكمة، فحكم عليه مجلس الجيش ومجلس البحرية بالسجن أربعين عاماً. وقد قضى الشاعر من هذه المدة عشر سنين لم يكف أثناءها عن الكتابة. ولقد نظم فيما نظم قصيدة مطولة في الشاعر التركي الفيلسوف بدر الدين أحد شعراء القرن الخامس عشر الذي حاول أن يؤلب الشعب على طغيان السلاطين فألقوه في السجن ولم يخرج منه إلا إلى المشنقة. وظل ناظم حكمت كما كانت بدر الدين مؤمناً بخلوص الفطرة في شعبه المكظوم المظلوم. فأخذ يقويه بالغذاء الأدبي النافع من مآثر أجداده وتقاليد أبطاله. وهو ينظم الآن ملحمة كبيرة شارفت على