للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[البريد الأدبي]

الأب أنستاس ماري في عيد ميلاده

احتفل الشيخ الجليل الأب أنستاس ماري الكرملي في ٥ آب بعيد ميلاده السادس والسبعين، منزوياً في صومعته الهادئة، منصوفاً إلى العمل الذي وقف عليه حياته

إن سيرة الأب الكرملي مثال حي للفكرة التي تتسلط على ذهن الإنسان فتعلق بشغاف قلبه، وتغدو جزءاً من أجزاء نفسه؛ وأية فكرة هذه التي ملكت لب الأب وهيمنت على جوارحه منذ حداثة عهده؟

هي اللغة العربية، وأكبِرْ بها فكرةً ينزع إليها العقل، وتروَى عنها النفس، تراءت له وهو فتى لم يكد يبلغ أشده، فبهره منها الحسن والسناء، وقطع لها راضياً عهد المودة والوفاء. وهاهو ذا بعد ستين سنة أو تزيد لا يزال وفيّاً بالعهد، متحمساً للغة الضاد حماسة الشباب الفوَّار، مخلصاً لها إخلاص الشيخوخة المحنكة الحكيمة

كانت اللغة العربية مذ وجدت - ولن تزال - وسيلة للخطاب والتفاهم، تحمل الأفكار من ذهن إلى ذهن، وتنقل الأخبار من جيل إلى جيل، حتى قرَّبت بين الناس، ووصلت بين الأزمنة الغابرة والحاضرة. وإذ أصبحت بعد تهذيب أطرافها وتنميق أسبابها أداة الآداب الرفيعة، لم تخرج عن كونها وسيلة لا غناءَ فيها إلا بما اتخذت له من غاية الإفصاح والتبيان. لكن لكلماتها وتراكيبها - مع ذلك - جِرْساً في الأذن، ورسماً على القرطاس حبباها أحياناً إلى النفوس، وقرباها من الأذهان بصرف النظر عن مدلولها ومؤداها

ولقد أشار إلى ذلك أناتول فرانس في كتابه: (الحياة الأدبية) عند الكلام على معجم جديد ظهر في اللغة الفرنسية، فقال إن بودلير كان يقرأ معجمات اللغة، ويبتهج بقراءتها، وأن تئوفيل غوتييه كان مولعاً بالكلمات يحبها حباً جماً، وأن جوزه ماريادي هريديا كان يجهر بان مطالعة المعجم تستشيره وتدخل على نفسه من اللذة والسرور ما لا تدخله قراءة رواية (الفرسان الثلاثة). وأضاف أناتول فرانس قائلاً بأسلوبه الساحر: (أما أنا فلا أجد عادة للكلمات معنى يفوق المعنى الذي تجعله لها المصطلحات، فقد كنت في أغلب الأوقات أهيم في معاجم كبيرة، كأنها الرياض الملتفة. وسبب ذلك أني أرى أن الألفاظ إنما هي صور، وما المعجم اللغوي سوى عالم قد رتب بحسب ترتيب حروف الهجاء. وإذا نظرنا إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>