فالعبقرية إنما تتوجه برسالتها واعية وغير واعية إلى هذه السريرة التي لا مجال لها تعمل فيه عملها سواها، وهي تعدي بإيمانها من يقدر له الاتصال بها (شخصيا)(من المستعدين) لتقبل فيوضها، والتشبع بها إلى درجة الامتلاء
ويبلغ من تأثير هذه (العدوى) أن تستجيش في سريرة المستعد لها كل بواعث الحياة والوعي والشعور بالواجب حتى ليبدو بعدئذ كأنه قد خلق في (صحبتها) خلقا جديدا، ويبلغ من تأثيرها أن ترفعه حتى يبلغ مرتبة (الاجتهاد) في رسالة العبقري، بل في غيرها من وجوه النشاط البشري، حتى يظهر كأنه هو أيضا (ملهم) كالعبقري، وذو رسالة كرسالته
وهذه ظاهرة تلازم كل عبقرية (خالقة) في الوجود، من خلال صلاتها بأتباعها الذين (صحبوها)
وقد أشرنا إلى هذه الملاحظة في مقال سابق نشر بهذه المجلة (الرسالة ٨٨٣) عنوانه (مجال العبقرية)، وضربنا هناك مثلا لهذه الظاهرة حواريي السيد المسيح الذين (صحبوه) في حياته التبشيرية القصيرة ثم استطاعوا أن ينهضوا بحمل رسالته من بعده، وما كانوا أولا غير طائفة من صيادي السمك وأشباههم سذاجة وعامية، ومع ذلك استطاعوا أن يثبتوا في الجدل والكفاح لأساطين كهنة اليهود وأحبارهم (الذين كانوا قد فقهوا حق الفقه صفوة الثقافات الدينية والعلمية والفلسفية التي كانت معروفة في عهدهم، وانتصروا عليهم حتى في تفسير الشريعة الموسوية التي هم كهنتها وأحبارها، وكانوا إذا خطبوا أو تحدثوا - وهم العوام - نطقوا بالبيان الساحر الذي يزلزل القلوب ويهز العقول، فلا تملك حيال بلاغته العارمة ما يدفعها، فإما أن تؤمن بها، وإما أن تنحرف عن طريق سيلها الغامر) كما مثلنا لهذه الظاهرة أيضا ببعض صحابة النبي الأقربين، وفيهم باري النبال والجزار والحداد وراعي الغنم والعبد المسخر المستضعف، وقد بلغوا ما بلغوا من الاقتدار والأستاذية في التشريع، والحكم، والنصح للخلفاء وعامة المسلمين، وتسكين الهزاهز التي نجمت أمامهم من كل أفق، فأبلوا فيها كأعظم ما ينبغي البلاء، مع أنهم كانوا (رواد) مجاهل لا عهد لهم