انتهى بنا الحديث في المقال السابق إلى بيان اثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى. ويظهر أنها لم تقف عند هذا الحد بل جاوزته إلى التاريخ الحديث. ونرى واجبا علينا لإتمام هذا البحث أن نشير إلى بعض المفكرين المحدثين في الغرب والشرق الذين حاولوا تفسير النبوة تفسيرا يمت بصلة إلى النظرية الفارابية؛ ولن نتحدث من بين فلاسفة الغرب إلا عن اسبينوزا الذي أشرنا في بحث سابق إلى انه يلتقي مع الفارابي في نقط كثيرة. وأما مفكرو الشرق ومصلحوه فسنذكر من بينهم شخصيتين جليلتين كانت لهما اليد الطولى في نهضة الأمم الإسلامية الأخيرة وتقدمها العلمي والأدبي، وهما السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام. ولا نظن أحدا إلى الآن حاول أن يربط آراء هذين المصلحين ربطا وثيقا بنظريات علماء الإسلام الأول ومفكريه، اللهم إلا محاولات ضئيلة ترمي إلى أيجاد علاقة بينهما، أو بين الأستاذ الأمام بوجه خاص من جانب وابن قيم الجوزيه وابن تيميه والغزالي من جانب آخر. وإذا صح أن آراءهما الدينية قد ربطت بأقوال بعض أئمة السلف فأبحاثهما العقلية لا تزال حتى الساعة غير واضحة الصلة بنظريات فلاسفة الإسلام. وخطأ أن يظن أن هذه الصلة مقطوعة أو معدومة، فان السيد والأمام إنما تم تكوينهما أولا وبالذات على حساب المصادر العربية؛ وفي مجلة العروة الوثقى ما يشهد بأنهما كانا يدعوان إلى دراسة فلاسفة الإسلام وتفهم أفكارهم. وسنرى بعد قليل كيف يلتقيان في مشكلة من أهم مشاكل الإسلامية
كلنا يعلم أن الصلة بين العقل والنقل بين الفلسفة والدين شغلت الفلاسفة المحدثين كما كانت حجر الزاوي في فلسفة القرون الوسطى. وقد وقف اسبينوزا على هذا الموضوع كتابا مستقلا غير معروف من جمهور القراء، لان نفوذ كتابه الآخر المشهور (الأخلاق) غطى عليه، ونعنى به (رسالته الدينية السياسية) التي تتمم في رأينا مذهبه الفلسفي. ذلك لأنه إذا