كان (كتاب الأخلاق) يوضح الحقائق العقلية، فأن هذه (الرسالة) تشرح الحقائق النقلية. وهذان الضربان من الحقائق متميزان عند اسبينوزا ومستقلان تمام الاستقلال ويقابلان علمين منفصلين: الحقيقة العقلية وموضوع الفلسفة، والحقيقة النقلية في موضوع علم الإلهيات، واسبينوزا فيلسوف وعالم في الإلهيات في أن واحد، فلا يستطيع أن يلغي إحدى هاتين الحقيقتين ولا أن يدمجها في الأخرى، بل يقرر أن كل واحدة منهما ضرورية ومطلقة النفوذ في مضمارها؛ والدين أن لم يكن الحقيقة كلها حقيقي في ذاته ولا غنى للجمعية عنه. غير أن الحقيقة الدينية تعتمد رأسا على الوحي والإلهام، فكيف يتم هذا الوحي وبأنه وسيلة يستطيع الأنبياء الوصول إليه؟ هذا هو السؤال الذي حاول اسبينوزا أن يجيب عليه. وفي رأيه أنا إذا تتبعنا الكتب المقدسة جميعها وجدنا إن الإلهامات النبوية المختلفة سواء أكانت عبارات صحيحة آم صورا رمزية إنما تتم بواسطة مخيلة قوية. وعلى هذا لا تتطلب النبوة شرطا آخر سوى أن يكون الأنبياء ذوي خيالة نشيطة متنبهة
لا يمكننا أن نمر بهذه الآراء دون أن نفكر على الفور في الفارابي وفي الدراسات الفلسفية اليهودية في القرون الوسطى. حقا أن المعرفة الناتجة عن الوحي والإلهام لا تساوي في نظر اسبينوزا المعرفة العقلية، مع انهما عند الفارابي متساويتان متكافئتان؛ ولعل هذا راجع إلى أن اسبينوزا فيلسوف قبل أن يكون لاهوتيا، وديكارتي قبل أن يكون فارابيا؛ ولا شك أن الأفكار الواضحة النيرة هي وحدها عند ديكارت سبيل المعرفة اليقينية غير انه بالرغم من هذا الخلاف فمن المسلم أن الفيلسوف العربي والفيلسوف اليهودي متفقان على أن قوة الخيالة شرط أساسي في النبوة. وهنا نتساءل: هل هذا الاتفاق مجرد مصادفة أو اخذ اسبينوزا عن الفارابي بعض آرائه في النبوة؟ إذا ما لاحظنا أن الأول درس في عناية مؤلفات ابن ميمون أمكننا أن ندرك الصلة بين الأفكار الاسبينوزية ونظرية النبوة الفارابية. ونحن نلحظ من جهة أخرى أن مذهب السببية عند الفيلسوفين متحد، وانهما يقبلان فكرة التنبؤ بالغيب دون أن يكون لها أي اثر في مجرى القوانين الطبيعية. ففي مقدور ذوي النفوس الممتازة أن يقفوا أثناء اليقظة أو في حالة النوم على الأمور المستقبلة ويتكهنوا ببعض الحوادث التي ستحصل غدا أو بعد غد لا محالة. وعلى كل حال فنحن لا نذهب مطلقا إلى أن اسبينوزا اخذ عن الفارابي مباشرة، لأنه ما كان يعرف العربية؛ وبعيد أن