يكون قد وقع في يده شيء مما ترجم من كتب الفارابي إلى اللاتينية. وكل الذي نعتقده انه استقى بعض الأفكار العربية من مصدر ثابت هو كتاب (دلالة الحائرين) لابن ميمون، وفي هذا الكتاب، كما قدمنا قسط وافر عن نظرية النبوة
ولنعد الآن مرة أخرى إلى الشرق وإلى السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام بوجه خاص. فأما السيد فلم يخلف لنا مؤلفات كثيرة نستطيع أن نقرا فيها كل أبحاثه ونظرياته، وفيما وراء (رسالته في الرد على الدهريين) و (تاريخه للأفغان) لا نكاد نجد له إلا مقالات متفرقة في (العروة الوثقى) وفي بعض الصحف والمجلات الموجودة في ذلك العهد. وكأنه اكتفى بان يلقن اتباعه وتلاميذه تعاليمه دون أن يودعها بطون الكتب شان سقراط وطائفة من المصلحين. هذا إلى أن حياة الاضطراب والرحلة والانتقال التي قضاها ما كانت تسمح له بالهدوء الكافي للجمع والتأليف. ومهما يكن فقد أدلى في موضوع النبوة بآراء جديرة بان تسرد هنا. وذلك انه أثناء مقامه الأول في القسطنطينية سنة ١٨٧٠ دعي إلى إلقاء محاضرة في دار الفنون. ويظهر انه شاء أن يكون موضوع المحاضرة متناسبا مع المكان الذي ألقيت فيه، ولهذا تحدث عن فائدة الفنون. وفي خلال هذا الحديث شبه الجمعية بجسم مرتبط الأجزاء والأعضاء، ولكل عضو من أعضائه خاصة. ثم انتقل من هذا إلى انه لا حياة للجسم إلا بالروح، وروح هذا الجسم هي النبوة أو الحكمة. فالنبي والحكيم من الجمعية الإنسانية بمنزلة الروح من البدن. وكل ما بينهما من فارق: هو أن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده (والله اعلم حيث يجعل رسالته) في حين أن الحكمة تنال بالبحث والنظر. وفوق ذلك فالنبي معصوم من الخطأ والزلل، بينما الحكيم يجوز عليه ذلك ويقع فيه وأول شيء يستخرج من التشبيه السابق أن النبي عضو وعضو هام من أعضاء الجمعية الإنسانية، وأن النبوة مهمة ووظيفة من الوظائف الضرورية للمجتمع. وفي هذا ما هيأ السبيل لشيخ الإسلام حسن فهمي أن يثيرها شعواء على السيد متهما إياه بأنه يزعم أن النبوة فن، وأن النبي صانع. وقد أحدثت هذه التهمة ضجة عنيفة في صحف الشرق المختلفة، وترتب عليها أن أرغم السيد على مفارقة استامبول سنة ١٨٧١