لما قعدت أكتب هذا الفصل، تقابلت في نفسي صورتان لرمضان:
رمضان المزعج الثقيل، الذي قدم يحمل الجوع في هذه الأيام الطوال، والعطش في هذا الحر المتوقد، يمشي في ركابه المسحر بنشيده الممل، وصوته الأجش، وطبلته التي يقرع بها رؤوس النائمين، من نصف الليل، من قبل السحور بساعتين، فترج أعصابهم رجاً، وتنفي النوم من عيونهم، والراحة عن أجسادهم. .
ورمضان الحلو الجميل، الذي يقوم فيه الناس من هدآت الأسحار، وسكنات الليالي، حين يرق الأفق، وتزهر النجوم، ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من سائل فأعطيه؟ ألا من تائب فأتوب عليه؟ يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء، مشي الشفاء في الأجسام، والطرب في القلوب، ينادي: يا أرحم الراحمين. فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان.
رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله ويؤمون بيوته، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجد، حفل بالعباد والعلماء، ليس يخلو مجلس فيها من مصل أو ذاكر، ولا أسطوانة من تال أو قارئ، ولا عقد من مدرس أو واعظ، قد ألقوا عن عقولهم أحمال الإثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع، ودخلوا بقلوب صفت للعبادة، وسمت للخير، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليتصلوا بعالم السماء. تفرقوا في البلدان، واجتمعوا في الإيمان، وفي الحب، وفي هذه القبلة يتوجهون كلهم إليها، لا عبادة لها، ولا التجاء إليها، فما يعبد المؤمن إلا الله. وما الحجر الأسود إلا حجر لا يضر ولا ينفع، ولكن رمزاً إلى أن المسلمين مهما تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار دائرة واحدة، محيطها الأرض كلها، ومركزها الكعبة البيت الحرام، رمضان الذي تتجلى فيه أجمل صفحات الوجود.
إن الحياة سفر في الزمان، وركب الحضارة الغربية يقطع أجمل مراحل الطريق: مرحلة السحر، وهم نيام، ولولا رمضان ما رأينا جمال السحر.
رمضان الذي تتحقق فيه الاشتراكية، وتكون المساواة، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل